إعلان

ودّعه منسي قبل الاستشهاد.. ملحمة البرث لا تزال "حيّة" داخل تايسون

05:02 م السبت 23 مايو 2020

الجندي محمد علي علي تايسون برفقة الشهيد أحمد منسي

كتبت- شروق غنيم:

الصمت يُخيم على المنزل، تلتف الأسرة حول التلفاز في انتظار الحلقة الثامنة والعشرين من مسلسل الاختيار، دقات قلب تايسون تخفق بقوة، ينتابه التردد مجددًا، يُعيد التفكير في مسألة مشاهدته للحلقة، لكنه في النهاية يقرر الاستمرار.تتابع أحداث ملحمة البرث أمام عينيه، تنفلت ابتسامة في بدايتها، قبل أن تسري رجفة في جسده، فالمعركة التي تدور رحاها أمامه على الشاشة، عايشها قبل ثلاث سنوات حين كان جنديًا في الكتيبة 103 صاعقة في مربع البرث بشمال سيناء، انقضت ثلاث سنوات على ما جرى ولم تُطوَ الحكايات بنفس الجندي العشريني، لاتزال الملحمة "حيّة" بداخله.

حين علم العام الماضي الجندي محمد علي علي الشهير بـ"تايسون" بأمر مسلسل الاختيار الذي يروي تفاصيل الواقعة، تسللت الفرحة بداخله، سيُعيد العرض التلفزيوني سيرة أبطال لم تُذكر أفعالهم من قبل "في ناس محدش كان يسمع عنها ولا عن اللي عملته سواء شهداء أو مصابين، زي علي علي وسباعي وغيرهم"، ورغم ثِقل ما جرى إلا أنه حينما تابع المسلسل "اتبسطت لأنه رجعني لأحلى ذكريات في حياتي"، فيما يطل الأبطال الحقيقين للمعركة في آخر حلقة من العرض التلفزيوني ليروا القصة بأنفسهم.

1

مع بداية شهر رمضان من العام الجاري، بدأ عرض مسلسل الاختيار الذي يحكي عن الكتيبة 103 صاعقة وقائدها العقيد أحمد منسي، الذي نال الشهادة دفاعًا عن كمين البرث برفقة أبناء الجيش المصري في السابع من يوليو عام 2017، وتمتد الأحداث وصولًا لتنفيذ حكم الإعدام على الإرهابي هشام عشماوي بعد إدانته من المحكمة العسكرية بوقوفه وراء تنفيذ سلسلة من العمليات الإرهابية في مصر.

يُعيد المسلسل سيرة الواقعة التي حدثت قبل ثلاث سنوات، غير أنها لاتزال تعيش مع تايسون، تحاصره كما جدران شقته في حلوان، لا تغيب ذكرياته مع الكتيبة عن باله، ولم يستطع تجاوز ذكرى ما جرى "بقيت منعزل عن الدنيا تمامًا، لدرجة الناس هنا نسيتني"، يقضي أغلب أوقاته داخل غرفته، تزوره مقاطع منفردة من الملحمة، فيما لم يقوَ طوال الأعوام الماضية على النوم ليلًا "مبقيتش آمن لليل خالص، مش خوف لكن القمر والليل بقوا بالنسبة لي غدارين.. الحكاية كل يوم بتتكرر معايا بأشكال مختلفة، بحلم بيها صاحي ونايم".

تواصل أفراد المسلسل مع تايسون ليروي الواقعة، اقترب منه الممثل كريم محجوب الذي يجسد دوره حتى يتقن أدائه، لم تظهر كل المشاهد التي جرت مع الجندي الشاب في العرض التلفزيوني، إذ صرح مخرج العمل بيتر ميمي أنه قلّص الكثير من المشاهد حفاظًا على مشاعر أهل الشهداء والمصابين.

2

لكن تايسون لا يزال يذكرها، يفتخر بها ويتألم كثيرًا على الأحبة الذين رحلوا غدرًا، وقتها كان لايزال ابن الواحد وعشرين ربيعًا، وفي فجر السابع من يوليو عام 2017 بدأت الحكاية. كان الجندي العشريني يتمركز فوق سطح المبنى، بينما يتوالى الهجوم من العناصر الإرهابية "القائد منسي طلع لي وقتها قولتله هنعمل إيه يا فندم؟ مردش عليا وبدأ يتعامل معاهم"، تتابعت الضربات وبينما يقبض تايسون على سلاحه داخل الدِروة "اتضربت دانة أربجي على إيدي اليمين، وبعدها على طول واحدة تانية في وشي".

سقط تايسون وانهارت شكائر رمال الدِروة عليه، إصابات متفرقة في جسده، بينما تنهمر الدماء من وجهه، سحبه القائد منسي سريعًا لإنزاله من المكان فيما يهتف فيه "اتشاهد يا تايسون اتشاهد.. رددت الشهادة بس مكنتش حاسس بأي حاجة حواليا"، تركه منسي وعاد سريعًا إلى سطح المبنى مجددًا قبل أن يأمر النقيب محمد طلعت سباعي بألا يغادر السلم المؤدي للسطح "متخليش حد يطلع ورايا يا سباعي".

سكنت حركة الجندي الشاب بينما رُحى المعركة لاتزال دائرة حوله وهو يتابعها "سباعي فضل واقف على السلم وبدأ الإرهابيين يدخلوا المكان وهو منع كتير منهم" وبينما كان مُلقى تايسون بجوار الحائط يتذكر ما جرى "واحد منهم دخل وضربني طلقتين في جسمي"، توقفت حركة تايسون تمامًا ثم فقد الوعي.

بعد فترة لا يدري مداها، استعاد تايسون وعيه بينما وجد نفسه داخل حمام المكان الذي يحتضن جثامين المصابين والشهداء، آنذاك كان الدعم قد وصل للكمين "فوقت لقيت شبراوي شهيد ودماغي فوق دماغه، كانوا بيحاولوا يقوموني.. ودني الشمال مكنتش سامع بيها أي حاجة، وحاسس إني مش شايف بعيني"، لكنه أنصت لهمس صديقه المُقرب علي علي جيدًا "مسك رجلي الشمال وقالي متسبنيش يا محمد.. متسبنيش يا صحبي، قولتله والله ما هسيبك، حاولت أشده قام معايا لحد صدري كان لسة فيه روح، فجأة بصلي وضحك واستشهد".

بطولة علي علي لا تُنسى، تلقى الشاب أكثر من 30 رصاصة وحده بينما لم تخر قواه، ظل مقاومًا، يتصدى للإرهابيين ومحاولاتهم للسيطرة على المكان أو الدخول للمكان الذي يستقر به جثامين الشهداء والمصابين، فيما استبسل شبراوي حتى النفس الأخير "كل الشهداء والمصابين مستسلموش لحظة وقاموا بدور بطولي".

نُقِل تايسون بعدها إلى مستشفى العريش العام، في طُرقات المستشفى وبينما يستقر على الترولي لمح أحد أفراد الكتيبة، خرجت الكلمات بصعوبة لكنه صمم على نطقها "أول حاجة سألتها هو مقدم منسي جه؟" ليأتيه الرد "آه جه يا حبيبي"، تهللت أسارير الجندي الشاب بينما تُلقي آشعة شمس عصر اليوم ظلالها على المكان "قولتله فين؟ هو كويس صح.. قالي إدعيله يا محمد الله يرحمه.. سكت خالص ومقدرتش أنطق".

كانت علاقة الجندي محمد علي بالشهيد منسي خاصة، لايزال يذكر أول لقاء معه، في أكتوبر من عام 2016 استشهد المقدم رامي حسنين قائد الكتيبة، بعدها تولى منسي محله "أول يوم جالنا فيه كنت أنا لسة زعلان على المقدم رامي، شافني وأنا ليا كاريزما وستايل معين في المكان، سألني اسمك إيه؟ قولتله محمد علي.. قالي أنت تايسون، من النهاردة اسمك تايسون.. ومن ساعتها ده الاسم اللي بحبه".

لم يُفارق تايسون ظِل منسي، يرافقه خلال تدريبات اللياقة "كان لازم ألعب معاه هو والنقيب شبراوي كل يوم"، طوال الوقت كان قائدًا وصديقًا لكل فرد في الكتيبة "أنا أبويا مات تالت يوم ليا في تجنيدي في سيناء، قائد منسي كنت بعتبره أب لينا، هو اللي يجيب لنا حقنا، هو اللي قلبه علينا.. لو أطول كنا كلنا نموت وهو يعيش".

3

كانت الأجواء داخل كتيبة 103 صاعقة مختلفة، يعرف كل من فيها الآخر، يتبادلون الوِد سويًا "كلنا صحاب وكنا نتجمع في رمضان زي لمة البيت في الكانتين نتفرج على مسلسل، نتحمس مع أبطاله ونهيص لما يكسب، اللي فينا قاعد قدام الشاشة واللي واقف على الباب، كانت أحلى أيام حياتي". تلك الذكريات كانت ونس تايسون بينما لايزال يتعافى من إصابته في المستشفى، لم يتركه أصدقائه في الكتيبة "كان واحد بينام جمبي والتاني تحت السرير لأني مش عايز أبقى لوحدي"، يتابع الأخبار، يرى جنازات رفاقه "دمهم كان لسة في إيدي، ولحد ما رجعت البيت فضل شهر في ضوافري، رافض إني أقصها عشان يفضلوا معايا".

بعد شهر من الواقعة عاد تايسون مجددًا للكتيبة 103 لكن في العريش، كانت الأجواء مُقبضة، ورغم حلول فصل الصيف إلا أن البرودة غلفت المكان، حاول الجندي الشاب التكيف مع الوضع الجديد لكنه لم يستطع "كنت أبقى قاعد على السرير أقول فين صاحبي فراج؟ فين محمود داخلية اللي بيخاف من القطط وأضحك عليه؟ فين هرم اللي بيجيب لي سجاير؟ فين أحمد نجم اللي كان يعملي معاه السحور ويجبلي زبادي لأني مسرف وخلصت فلوسي؟ فين علي علي يقولي هات الكاسيت بتاعك اسمع عليه؟ فين محمد صلاح؟ محمود صبري؟ في لحظة كل اللي بحبهم اتفرقنا عن بعض".

لا يزال يتعافى ابن الأربعة وعشرين عامًا مما حدث، يتابع مع الأطباء وضعه الصحي فيما ينتظره إجراء عملية جديدة، لا يتوانى عن متابعة الأخبار، وحينما يستشهد بطل جديد "ببقى عايز أرجع، كذا حد بيقولي خلاص أنت عملت اللي عليك بس أنا مش فارق لي، أنا خدت الأربجيه بالحضن واتكتب لي أعيش عشان أرجع وأجيب حقهم، ولا أفرط يوم في الأرض".

فيديو قد يعجبك: