إعلان

من فتح التاء المربوطة؟

الكاتب الصحفي الدكتور ياسر ثابت

من فتح التاء المربوطة؟

د. ياسر ثابت
07:00 م الأحد 21 سبتمبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

بجُملٍ قصيرة، سريعة الطلقات، ومحمَّلة بالإيحاء والدلالات، يباغتُك فارس محفوظ في مجموعته القصصية «من فتح التاء المربوطة؟» (أكوان/أفلاك/متون المثقف، 2024)، حتى تستسلم للجمال والدهشة.

تتأرجحُ لغة هذا القاص بين السرد الواقعي التفصيلي وبين النزعة الرمزية والغرائبية؛ إذ يتأمل عبثية الواقع، واختلاط الحقيقة بالوهم.

في قصة «مساء الكريستال» نطالع: «همَّ فزعًا ينقّبُ في وسادته عن دمعة الأمس» (ص 112). في «الريفي الذي أتلفته أضواء المدينة»، يتحدَّث بذكاء وحكمة: «باستثناء المحاولة الأولى، كانت كل المرات مبتذلة» (ص 129).

وفي «مدينة الظلال» يستهلُ فارس محفوظ القصة بقوله: «كلما خطوتُ على ظلٍّ اختفت حقيقته وبقي هو» (ص 118). وفي «أفمام»: «لأن النقد لا يؤلم إلا إذا أصاب طرفًا من حقيقة، استشرفَ أحدُ الآباء المستقبلَ وكمَّم فم روزا -الفتاة الثائرة- في طفولتها» (ص 116). وفي «حُلم الحياة حُلم الموت»: «أمضيتُ الوقتَ أدفع ثمن الأمل ولا أشتريه. الباعة كُثر، الجائلون منهم وأصحاب المتاجر، وجميعهم نصابون» (ص 119).

وفي «المكلومة» تقرأ: «لخَّص شقاء النهار كله بتنهيدة خرجتْ من جوفه حين نال من فمها» (ص 26)، و«وجد صعوبةً في نزع القميص عنها دون مساعدتها إياه، فتخلَّص منه على طريقته، ومضى وانقضى الأمر دون الحاجة إلى ظلام» (ص 26)؛

ما بين القصة والأقصوصة القصيرة جدًا، يعرضُ القاص كتاباته على القارئ. ففي «رحلة إلى رأي الحكمة» لا تزيد الأقصوصة عن التالي:

«يلتئمُ شقُّ رأسه عليه بالداخل، فلا يعود من ذاكرته سوى كل عام، ليلة عيد الميلاد؛ ليطمئن أن الذي كان موجودًا، لم يزل. اليوم، بعد الرحلة الخمسين، أدركَ أنه ليس من الحكمة أن يشقَ المرءُ رأسه» (ص 34).

وفي «سيد الوقت»، نطالع:

«لأن جميع أحداث الأمس بدتْ رائعة، نخَّبَ الأمسُ نفسَه سيدًا للوقت. ظل يحصدُ أصواتًا يومًا بعد يوم، وحين فاز، تلاشى الوقت» (ص 111).

تقوم قَصَصية المجموعة على مجموعة من التقنيات، من قبيل شراكة الراوي، وتنوع صيغ الكلام، وتلقائية السرد، وكسر أفق التوقعات، والمفارقة بين المتوقع والواقع، والمزاوجة بين الواقعي والغرائبي، وغيرها.

ثمة محاولة لتعرية الذات والعالم المحيط، وصراع مع هواجس الفقد والخذلان والهشاشة، هشاشة الشخوص المسرودة، وهشاشتنا نحن.

في المجموعة القصصية، يجد القارئ مساحةً يلتقي فيها الحلم بالواقع، والذاكرة بالفقد.

في «الصعود لأسفل»: «ماريا، حبة البازلاء اليافعة التي نضجتْ قبل أيام وتكوَّر جسدها متخلصًا من خسفات الغضاضة» (ص 28)، و«وما إن رسّخت الحبةُ دعائمها في أرجاء التربة، اقتربت من سطحها أكثر فأكثر. حتى جاء هذا اليوم وتفتّق آخرُ مسام جسدها لأعلى، لتتلاشى الجثة القديمة نهائيًا، وتخرج إلى الضوء ساقًا خضراء تعجبُ لزهوِها العيون الناظرة» (ص 32)؛ في «على باب الله»: «وفي زمن بحثه عن مسكن اختارَ جيبُه حارة لا تسكنها الشمس إلا في أوقاتٍ ضنينة حين تتعامدُ على هامات البيوت» (ص 33)؛ في «كابوس البطريركية»: «حضرت الفتاة قبل تضرُّعات الفجر إلى عقل البابا النائم، بدموعٍ تجري فوق ندوب وجهها التي تسببَ فيها الزوج الصعيدي الذي لا يفرّق بينها وبين جاموسة حقله» (ص 42)؛ في «من طوب الأرض»: «من أجل حوالة أبي الشهرية، أقطعُ بصحبة أمي الطريق إلى المدينة، ليومٍ آخر. تؤكد أمي لي ولجميع الديَّانة في طريقنا إلى مدخل القرية، أن الفَرَج قريب. كان الفَرَجُ رفيقًا بأمي، لم يخذلها كالأمس. عُدنا وفي يدنا رزمة فلوس كأنها الحَمَام، تطير برؤية المارة» (ص 49)؛ في «رَتْق جسد الخياطة»: «حتى رحيلُها على يد قطة كان رقيقًا خاطفًا، كما كانت فساتينها. لعنة الخيّاطة أنها عاشت طويلًا بعد وفاة أم كلثوم، فيما كانت قد سخّرت حياتها من أجل ابتداع فساتينها بتلك الفتنة التي ظهرت عليها، دون مغالاةٍ إلا في مشاعر» (ص 51)؛ في «مجنون النادي»: «عاد لتوه من نادي العهد الجديد، حيث يمارس هوايته لدقائق: الحياة» (ص 55)؛ في «جزمة أبو راضي القديمة»: «ترتجف قرب الباب إذ تلوكها الخيالات التي ملأت رأسها مذ طُلبت منها الأشعة، لكنها تفاقمت الآن والخدر قد أصاب أطرافها فتصلّبت» (ص 57)؛ في «اتعاظ»: «مكتبتي الحيز الوحيد الذي يتجاوز فيه الخير والشر دون حرب» (ص 66)؛ في «بيكيا»: «لدى بائع الروبابيكيا لمحتُ مُخَّ إنسان. دققتُ النظر. وجدتُ أعضاء أخرى كان من الممكن ملاحظتُها بسهولة لو أنها ليست مُلقاة على فرشة مهترئة فوق أرضية كوبري المشاة، أعلى المحطة» (ص 109).

في «المكلومة» تتكشف الصورة الهادئة عن صراعٍ داخلي صاخب، كما يلي:

«أصيل الثلاثاء. رجلٌ طاعن منكمش، أمام فاترينة صغيرة بواجهة مكتبة بيع أدوات مدرسية؛ لتصوير نسختين من بطاقته الشخصية. العاملة بالمكتبة اسمُها مارجريت، جديدة على حي العمرانية الغربية، وزوجة حديثة لكهربائي المنطقة، رزق.

كان الشيخ ينتظر خارجًا فيما تعمل مارجريت بالداخل على ماكينة التصوير، ولكن عينيه الغائرتين في عظام وجهه تتطلعان بشبق إلى حيث الفتاة محاولتين أن تطالا شيئًا مما يحسدون رزق عليه آخر الليل، جميعُ أهل الحارة» (ص 16).

تتداخل الموسيقى والأغاني مع الشأن الشخصي للأبطال، كما في قصة «المكلومة»: «عذَّبتها ذاكرتها أربعة أشهر الزواج الأولى كما تُعذِّبها أغاني العندليب» (ص 19). كذلك في «رَتْق جسد الخياطة»: «وفي ليلٍ شتوي بارد وهادئ، بينما تبعث حوائط شقتها ما بجوفها من ألحان السنباطي، ماتت ممددة على فراشها مبتسمةً لشدوٍ يهتزُّ لها فؤادها، فرِحة بمظهر آخر فستان سهرة صنعته بيديها للست، وتلبسه الآن في رقادها الذي استشعرت قبلًا أنه الأخير» (ص 54).

أما في «كوة تفتحها الموسيقى»، فنطالع: «صارت حياتُها: مقطوعة موسيقية. ذكرياتها: حروف السلم الموسيقي. بكاؤها: لحنًا حزينًا» (ص 131). وفي «أزمة تثدي»: «لدى بقعة غائرة في التاريخ، حيث توقفت حنجرة الريف الغنّاءة عن الغناء، رُصِد تجمُّع قروي، ولم تُرصد فيه حياة» (ص 136)، و«في الشهر التالي، بدأت صغرى بنات العمدة بيومي مفاتحة والدها في تعلُّم الكمانجة» (ص 156).

الجرح الغائر نلمسه في شخصية بطلة «المكلومة»: «نهضت مارجريت عن السرير وبسرعةِ العادة جففت الملاءة دموعها المُنكّهة بنكهة الخضوع» (ص 24).

يُقدِّم فارس محفوظ مجموعة قصصية مميزة يتنوع نهجها الدرامي ما بين الرمزي والفلسفي والنفسي والواقعي.

يلمس الكاتب بحس سليم في قصصه الكثير من القضايا في مجتمعنا الشرقي، ولا سيما مشكلات المرأة التي عبَّر عنها بصدق في أكثر من قصة، وأجاد بحرفية سبر الأغوار النفسية لشخصياته ونقلها للقارئ في صورة حية معبِّرة.

نجح الكاتب في خلق أسلوب أدبي خاص به.

كأي مغتربٍ يخوض مغامرته بإصرار في شوارع القاهرة، يهدي فارس محفوظ مجموعته القصصية «إلى القاهرة.. العجوز التي لم تتخلَّ عن مسحة السحر».

يختار فارس محفوظ الاقتباسات بعناية فائقة، فهو يبدأ بالشاعر السوري رياض الصالح حسين:

«وهنا.. هنا، حتى الموتى يمكن أن يتألموا، وحتى الموتى يمكن أن يتقنوا الرقص».

«من فتح التاء المربوطة؟» رحلةٌ داخل ذاكرة الإنسان نفسه، قادها ببراعة القاص فارس محفوظ.

إعلان

إعلان