إعلان

72%!!

أ.د. عمرو حسن

72%!!

أ.د. عمرو حسن

أستاذ أمراض النساء والتوليد بكلية طب جامعة القاهرة

07:00 م الخميس 28 أغسطس 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

وفقًا لنتائج المسح الصحي للأسرة المصرية عام 2021، سجلت مصر أعلى معدل ولادة قيصرية في العالم بنسبة 72% من إجمالي الولادات، أي أن سبع سيدات من كل عشر يلدن بعملية جراحية كان يُفترض أن تبقى استثناءً في حالات الضرورة، لكنها تحولت اليوم إلى خيار شائع، بل إلى ظاهرة مقلقة. هذا الرقم لا يمكن التعامل معه كإحصائية طبية، بل هو انعكاس لواقع يؤثر على صحة الأمهات والأطفال ويضع عبئًا إضافيًا على كاهل المنظومة الصحية، وبالتالي على مستقبل الدولة ذاته.

الأسباب وراء هذه الظاهرة متعددة، تبدأ من الثقافة المجتمعية التي كرست صورة الولادة الطبيعية كرحلة ألم لا تُحتمل، في ظل غياب التوعية الكافية بوسائل تسكين الألم الحديثة، مرورًا بالتصورات الخاطئة التي تعتبر القيصرية أكثر أمانًا وأيسر في التوقيت، وصولًا إلى الضغوط الاجتماعية من الأسر. كما يساهم ضعف برامج التثقيف الصحي أثناء الحمل، وغياب الاهتمام بالرياضة والتغذية السليمة، في تقليل فرص الولادة الطبيعية، فضلًا عن غياب بروتوكولات صارمة تحدد بوضوح متى تصبح القيصرية ضرورة طبية لا بديل عنها.

وإذا عقدنا مقارنة دولية لبرزت المفارقة بوضوح. ففي عام 2000 لم تتجاوز نسبة الولادة القيصرية في مصر 10%، بينما كانت في الولايات المتحدة 23%. لكن بعد عقدين فقط، قفزت النسبة في مصر إلى 72%، فيما استقرت في أمريكا عند حدود 32%. أي أن مصر شهدت ارتفاعًا بأكثر من سبعة أضعاف خلال فترة قصيرة، بينما لم تتجاوز الزيادة في الولايات المتحدة تسع نقاط مئوية. هذه الفجوة تؤكد أن المشكلة في مصر ليست طبية فحسب، بل ثقافية وإدارية واقتصادية أيضًا.

الولادة ليست حدثًا فرديًا يخص الأم وحدها، بل هي لحظة تصنع مستقبل المجتمع كله. فالطفل الذي يولد طبيعيًا غالبًا ما يتمتع بمناعة أقوى ورئة أكثر كفاءة وارتباط نفسي أعمق مع أمه. أما الطفل الذي يولد بعملية قيصرية غير مبررة، فقد يواجه على المدى الطويل مشكلات تتعلق بالمناعة والتنفس. أما على مستوى الدولة، فالأم المرهقة صحيًا تعني تكلفة علاجية أعلى، والطفل الضعيف يعني عبئًا طويل الأمد على التعليم والإنتاج. بمعنى آخر، الارتفاع غير المبرر لمعدلات القيصرية هو استنزاف مباشر لرأس المال البشري لمصر.

التجارب الدولية أثبتت أن مواجهة هذه الظاهرة ممكنة، فقد نجحت دول عديدة في تقليل معدلات القيصرية بخطوات مدروسة، شملت تثقيف الأمهات بحقوقهن وخياراتهن، وتقديم الدعم النفسي أثناء الولادة بوجود الزوج، إلى جانب إصلاح نظام الحوافز المالية داخل المستشفيات بحيث لا تكون القيصرية الخيار المربح للأطباء، بل الولادة الطبيعية هي المعيار. كما لعب الإعلام دورًا مهمًا في إعادة تقديم الولادة الطبيعية كخيار صحي وإنساني، بدلًا من تصويرها كمشهد رعب درامي.

القضية إذن ليست مجرد ملف صحي، بل هي قضية أمن قومي. مستقبل مصر يُكتب من رحم الأم؛ فالأم السليمة والطفل السليم هما اللبنة الأولى في بناء الإنسان الذي تحدث عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي باعتباره التحدي الأكبر أمام الدولة. لا يمكن أن ننجح في هذا التحدي بينما نسمح للولادة القيصرية أن تتحول من وسيلة إنقاذ إلى ثقافة عامة. المطلوب ليس محاربة القيصرية في ذاتها، فهي نعمة عظيمة عند الضرورة، بل إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، بحيث تكون الولادة الطبيعية هي الأصل والقيصرية هي الاستثناء.

أرى يوميًا كيف أن القرار الصحيح وقت الولادة يصنع فرقًا في حياة أم وأسرة كاملة، وأرى أن القضية أكبر من غرفة عمليات. إنها قضية تخص مستقبل أمة بأكملها. الأم التي تُمنح الحق في الولادة الطبيعية تمنح الوطن أجيالًا أكثر صحة وقوة. وإذا أردنا مصر قوية، فلا بد أن نعيد التوازن إلى ثقافة الولادة، لأن القيصرية عند الضرورة نعمة، أما الطبيعية فهي البداية الأفضل لمستقبل مصر.

** أ.د. عمرو حسن

أستاذ أمراض النساء والتوليد بكلية طب جامعة القاهرة

إعلان

إعلان