إعلان

تنفيسة| حكاية سليم تقلا وتأسيس جريدة «الأهرام»

محمد جادالله

تنفيسة| حكاية سليم تقلا وتأسيس جريدة «الأهرام»

محمد جادالله
07:01 م الإثنين 25 أغسطس 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

في شهر أغسطس من هذا العام 2025م، تحلّ الذكرى المئة والخمسون لتأسيس هرم الصحافة العربية وصاحبة الجلالة، صحيفة الأهرام. واحتفاءً بهذه المناسبة، نعود إلى البدايات الأولى لنشأة هذا الصرح العريق، لنستحضر سيرة مؤسسه سليم تقلا، تلك الشخصية اللبنانية التي كان لها أثر فارق في مسار الصحافة المصرية والعربية في نهايات القرن التاسع عشر.

ففي هذا المقال نستعرض ملامح حياته، ومسيرته المهنية، ونتأمّل حكايته مع المشروع الذي بدأه في مطبعة متواضعة، قبل أن يتحوّل مع أخيه إلى ما يُعد اليوم أحد أبرز الكيانات الفكرية والإعلامية في العالم العربي: جريدة الأهرام. فقد هاجر سليم تقلا من بيروت، وتوجّه إلى مصر، واختار مدينة الإسكندرية موطناً لأول أحلامه الصحفية، لينطلق منها نحو تحقيق ذلك المشروع الكبير.

سليم بن خليل بن إبراهيم تقلا، وُلد عام 1849م في قرية كفرشيما بلبنان. ويُروى أن ميلاده كان في الخامس من ديسمبر، غير أنّ هذا التاريخ لم يُحسم بدقة، إذ تشير بعض الروايات إلى أنه وُلد في منتصف ذلك العام. تلقّى تعليمه الأولي في مدرسة القرية، وأظهر نبوغًا لافتًا في القراءة والكتابة، ما دفع والده إلى السعي لإلحاقه بمراحل تعليمية أعلى.

لكن طموح الأب اصطدم بشرط المدرسة التي أراد إلحاقه بها، إذ كانت لا تقبل الطلاب دون سن الخامسة عشرة، بينما كان سليم أصغر من ذلك. ومع ذلك، وجد والده وساطة مكّنته من تجاوز هذا الشرط، فالتحق بالمدرسة، حيث لفت ذكاؤه وشغفه بالعلم أنظار أساتذته.

وفي عام 1860م، ومع اندلاع الثورة ضد الحكم العثماني، اضطر وهو في الحادية عشرة من عمره إلى مغادرة قريته والانتقال إلى بيروت. هناك، التحق بالمدرسة الوطنية، وكان يعمل إلى جانب دراسته لتأمين نفقاته. وبعد إتمام تعليمه، اختار أن يدرّس اللغة العربية في المدرسة البطريركية، وكان من بين زملائه في هيئة التدريس الأديب والشاعر اللبناني الكبير ناصيف اليازجي.

وقد أعجب اليازجي بمهارة سليم، فأوكل إليه شرح بعض الدروس لطلابه. وبمرور الوقت، ترقّى سليم ليصبح وكيل المدرسة ومدير شؤونها، وفي تلك الفترة ألّف كتابًا في النحو والصرف بعنوان «مدخل الطلاب»، ليضع أولى لبنات إنتاجه الفكري في مسيرته التي ستقوده لاحقًا إلى تأسيس إحدى أعرق الصحف العربية.

لكن في تلك المرحلة، اتخذ سليم تقلا قرارًا مصيريًا سيغيّر مجرى حياته. فقد قرّر مغادرة بيروت والهجرة إلى مصر، بعدما بلغ مسامعه أنّ أرض الكنانة تشهد نهضة فكرية وثقافية غير مسبوقة، لا مثيل لها في أي بلد عربي آخر آنذاك. رأى في هذه النهضة فرصة لتحقيق طموحاته الصحفية والفكرية، فحزم أمره ورحل.

اختار الإسكندرية لتكون محطته الأولى في مصر، لما كانت تتمتع به من حيوية ثقافية وحضور بارز للمطبوعات والصحف، فضلًا عن كونها ميناءً يستقطب مختلف الجنسيات والأفكار. وفي عام 1875م، وصل سليم إلى الإسكندرية، ليبدأ هناك أولى خطواته نحو تحقيق حلمه الكبير.

لكن، قبل أن تطأ قدماه أرض مصر، نظَم سليم تقلا قصيدة رنانة في مدح الخديوي إسماعيل، وأرسلها إلى بعض المقرّبين من الخديوي، ليوصلوها إليه. كان عمره آنذاك ستة وعشرين عامًا. وبينما استقر سليم في الإسكندرية لبعض الوقت، لحق به شقيقه بشارة، لنتساءل هنا: ما الذي جمع الشقيقين في مصر؟

الجواب أنّهما قدِما وفي ذهنهما مشروع واحد يشغل فكرهما معًا؛ إنشاء مطبعة وإصدار صحيفة تحمل رؤيتهما الفكرية. وبعد دراسة واختيار، استقرّا على حيّ المنشية مقرًا لمشروعهما، وانتقيا له اسمًا يعبّر عن الصرح الذي يحلمان به: "الأهرام". ثم تقدّم سليم بطلب رسمي إلى السلطات للحصول على تصريح إصدار صحيفة "الأهرام"، ليبدأ بذلك فصل جديد في تاريخ الصحافة العربية.

كان سليم تقلا يتولّى تحرير المقالات الأدبية بمختلف أشكالها، بينما تخصّص شقيقه بشارة في الترجمة عن الصحف الأجنبية وجمع الأخبار من مصادرها المتنوعة، مثل السفارات وغيرها. وفي ديسمبر عام 1875م، صدر الترخيص الرسمي بإنشاء جريدة ومطبعة الأهرام، وتولّى سليم منصب رئيس التحرير، بينما أسندت إلى بشارة المهام الإدارية إلى جانب عمله الصحفي.

وفي يوم السبت، الخامس من أغسطس عام 1876م، خرج إلى النور العدد الأول من صحيفة الأهرام بمدينة الإسكندرية، وجاءت آنذاك في أربع صفحات فقط، إيذانًا ببدء مسيرة صحفية ستصبح لاحقًا علامة خالدة في تاريخ الإعلام العربي.

وبعد مرور سبعة أشهر فقط، كانت معظم الصحف الموجودة آنذاك تعتمد على تمويل الحكومة، وحين واجهت الحكومة أزمات مالية وتكاثرت عليها المتاعب، توقّف الدعم المادي عنها، فانهارت وأُغلقت غالبية هذه الصحف، باستثناء صحيفة واحدة فقط هي الأهرام.

ويعود الفضل في صمودها إلى الجهد المتواصل الذي بذله سليم وبشارة، حيث عملا على تنشيط الإعلانات وزيادة عدد المشتركين بأسلوب مبتكر. وبالفعل، ارتفع الإقبال على الجريدة بشكل ملحوظ، ولم يقتصر الأمر على الاشتراكات، بل صار يرد إليهما رسائل إعجاب وتقدير، لم تكن رسائل عادية، وإنما تضمنت أبياتًا شعرية تمجّد الجريدة وصانعيها.

كما قرر سليم أن يتوسع في نشاطه الصحفي، فعمل على ترجمة موضوعات متنوعة في مجالات الأدب والتراجم والقصص، ولم يكتفِ بنشرها في صفحات الجريدة فحسب، بل عمد إلى إصدارها في كتب تحمل اسم الأهرام. وبهذه الخطوة، أسهم بفاعلية في حركة تعريب الكتب ونشرها، مقدِّمًا للمجتمع المصري لونًا ثقافيًا جديدًا، يفتح أمام القرّاء آفاقًا أرحب للمعرفة ويعزز مكانة الأهرام كمنبر للفكر والأدب.

لم يتوقف طموح سليم تقلا عند حدود نجاح الأهرام، بل سعى إلى توسيع نشاطه الصحفي، فأطلق في 9 يوليو 1876م جريدة جديدة باسم "صدى الأهرام"، وهي صحيفة يومية صدرت في أربع صفحات. لكن الحظ لم يدم طويلًا، إذ توقفت بعد اعتقاله.

وبعد الإفراج عنه، عاد بعزيمة جديدة وأصدر جريدة أخرى بعنوان "الوقت"، غير أنها توقفت أيضًا في 9 يوليو 1882م. ولم ييأس، فأنشأ صحيفة ثالثة أطلق عليها اسم "الأحوال"، لكنها لم تعمّر طويلًا، إذ توقفت هي الأخرى عقب اندلاع حريق كبير في مطابع الأهرام، ما أدى إلى تعطلها عن الصدور.

لننتقل الآن إلى سرد المواقف والمشكلات التي وقعت بين سليم تقلا والخديوي إسماعيل. بدأت القصة بما يمكن وصفه بـ"كذبة بيضاء"، إذ كتب سليم في طلب الترخيص لإصدار جريدة الأهرام ومطبعتها تعهدًا بعدم الاشتغال بالسياسة. غير أن هذا التعهد لم يُنفَّذ، فقد خاضت الجريدة في القضايا السياسية بقوة.

وفي تلك الفترة اندلعت الحرب بين روسيا وتركيا، فانخرطت الأهرام، مثل بقية الصحف، في متابعة مفاوضات الصلح بين تركيا والدول الأوروبية. لكن هذا لم يكن سبب الخلاف مع الخديوي. بدأت الأزمة الحقيقية عندما تناولت الأهرام الأوضاع المعيشية والمالية المتردية في مصر، ووجهت انتقادات حادة لتصرفات الخديوي إسماعيل نفسه.

ومن أبرز ما نُشر آنذاك مقال بعنوان: «قل لنا متى النهاية؟ تحملنا ما لا يطاق»، إضافة إلى مقال كتبه سليم تقلا بنفسه تحت عنوان «ظلم الفلاح»، وجّه فيه اتهامًا صريحًا للخديوي إسماعيل بممارسة الظلم ضد الفلاحين.

بطبيعة الحال، أثارت مقالات سليم تقلا غضب الخديوي إسماعيل إلى حدٍ كبير، فأمر بإرسال الجنود للقبض عليه. غير أن أخاه بشارة وقف في مواجهتهم رافضًا تسليمه، مما دفعهم إلى اعتقال الاثنين معًا وإيداعهما السجن. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أوقف الخديوي صدور جريدتي «الأهرام» و«صدى الأهرام»، وصادر المطبعة أيضًا.

لكن هذا الإجراء لم يدم طويلًا، فبعد ثلاثة أيام فقط أُفرج عنهما بضغط من القنصل الفرنسي على الخديوي. كما تدخّل بعض المقربين من إسماعيل للتوسط من أجل إعادة إصدار الصحف، فأنشأ الشقيقان جريدة ثالثة باسم «الوقت» بدلًا من «الأهرام»، وجريدة «حقيقة الأخبار» بدلًا من «صدى الأهرام».

وبعد رحيل الخديوي إسماعيل عن مصر، عادت الأهرام للصدور من جديد. غير أن أحداث الثورة العرابية وما تلاها من حريق مدينة الإسكندرية أتت على مطبعة الأهرام وأحرقت كثيرًا من مؤلفات سليم. عندها قرر سليم الهجرة إلى سوريا، ثم ما لبث أن عاد إلى الإسكندرية بعد أن هدأت الأوضاع، لتستأنف الأهرام مسيرتها من جديد.

في عام 1891م، سافر سليم تقلا إلى فرنسا لتغطية بعض الأحداث الصحفية. وبعد عام واحد، أي في 1892م، بدأ يشعر بآلام حادة في صدره، فنصحه الأطباء بالذهاب إلى لبنان لتغيير الجو على أمل أن تتحسن حالته. سافر بالفعل، لكن الأعراض لم تهدأ، بل ازدادت سوءًا.

وأثناء تدهور حالته الصحية، طلب من مرافقيه أن يستدعوا قساوسة الكنيسة، وكأنه كان يشعر بدنو الأجل. وفي ظهر يوم الاثنين الثامن من أغسطس سنة 1892م، باغتته نوبة ألم شديدة لم تمهله طويلًا، فتوفي على الفور.

وفي الثالث عشر من أغسطس سنة 1892م، أصدرت الأهرام عددًا خاصًا مكوّنًا من ست صفحات، حمل على صفحته الأولى كلمة واحدة بارزة: "مصيبة"، وفاجأت قراءها بنشر صورة مؤسسها الراحل سليم تقلا، وتحتها بيت شعر خطّه شقيقه بشارة: مصيبة أذكت قلوب الورى .. كأنما في كل قلب زناد.

mohamedsayed@art.asu.edu.eg

إعلان

إعلان