إعلان

تنفيسة| كواليس نادرة من أرشيف ذكريات زياد الرحباني (1 – 2)

محمد جادالله

تنفيسة| كواليس نادرة من أرشيف ذكريات زياد الرحباني (1 – 2)

محمد جادالله
07:50 م الإثنين 11 أغسطس 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

حديثنا هذا الأسبوع، والذي يليه، عن الفنان العبقري زياد الرحباني. ولعلك تسألني: لماذا أطلقتُ عليه وصف "الفنان" لا "الموسيقي"؟ لأنه، بحق، فنان شامل: ملحّن، وممثّل، ومخرج، ومؤلّف. ذكّرني بالمثل المصري الدارج: "سبع صنايع"، في النصف الأول فقط، أمّا النصف الثاني فبَختُه لم يكن ضائعًا.

على العكس تمامًا، فلقد أسعدنا ولا زال بكلماته وألحانه الجميلة، استطاع بصوته الصامت أن يبلّغنا ما لم يُصرَّح به، ورسم بموسيقاه مشاعرَنا التي توانينا نحن أنفسنا عن التعبير عنها، وجعل كل نغمة منه شهادة إحساس ووجع وفرح نادر. إنه شخصية نادرة المثال؛ فلنقف على سيرته ومسيرته، ونتأمل كيف تمكن من ترك هذا الأثر العميق في نفوسنا. وليس ذلك فحسب، بل سنفتح صندوق ذكرياته لنكتشف حكايات ستقرؤونها للمرة الأولى.

في 1 يناير 1956م، وُلد زياد عاصي الرحباني في بلدة أنطلياس اللبنانية، في بيتٍ فنيّ متميّز؛ فأبوه هو عاصي الرحباني، وأمّه فيروز. وحين كان في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره، ألّف ديوانًا بعنوان "صديقي الله"، وهو عبارة عن مجموعة خواطر تكشف عن بدايات اهتمامه بالكتابة والتأمل.

وهنا أذكر لك، عزيزي القارئ، حكاية تكشف ملامح موهبته المبكرة. تُروى عن زياد الرحباني، وهو بعدُ في مقتبل العمر، لم يتجاوز الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، أن أهله كانوا يقتنون نسخ "ريل" – وهي بكرات التسجيل الكبيرة التي استُعملت في الإذاعات والتلفزيون منذ الأربعينيات حتى السبعينيات – لكنها ما كانت لتبقى في موضعها طويلًا؛ إذ ما إن يفتقدوها حتى يدركوا على الفور أن زياد قد استحوذ عليها، لينقّب في محتواها أو ليسجّل عليها جديد إبداعه.

كان يسجّل أغانٍ من تأليفه، ويعزف بنفسه على البيانو والأكورديون. وأحيانًا يستعين بإخوته أو بأحد أفراد العائلة ليشاركوه الأداء، بل كان يجمعهم أحيانًا في هيئة كورال يرافقه في الغناء. وفي تلك الفترة أبدع أغنية بعنوان "بكرا برجع بوقف معكن"، عزف فيها والده على آلة المندولين، ثم لحّن أغنية "قديش كان في ناس" التي استعمل جزءًا منها لاحقًا في مسرحية سهرة. وفي الوقت نفسه وضع موسيقى تصويرية بعنوان "آثار على الرمال"… وكل ذلك وهو لم يزل في الثالثة عشرة من عمره!

ومن عام 1968م حتى عام 1971م، أخرج زياد وصوّر أفلامًا بعنوان: الزهرة، والحرب آتية، والناطور، وجميعها من نوع "سوبر 8". لم يكن ذلك مجرد شغف عابر، بل ولعًا حقيقيًّا بفن التصوير السينمائي، ولا سيما أفلام "السوبر 8" التي برزت في ستينيات القرن الماضي، والمصوَّرة على شريط سينمائي بعرض ثمانية مليمترات.

لم يكن زياد يكتفي بالتصوير فحسب، بل كان ينجز الفيلم من الفكرة إلى السيناريو، ومن التصوير إلى المونتاج والإخراج، وصولًا إلى الموسيقى التصويرية… أما نحن، فقد كنّا الممثلين الدائمين في أعماله، شاء أحدنا أم أبى. وحين قرر أن يغادر المنزل، بدأ يتخلّص من تلك الأعمال التي صنعها؛ من تسجيلات وصور وذكريات. خشيَت أختاه ريما وليال عليها من الضياع، فخبّأتاها بعيدًا عنه. احتفظوا بمعظمها في سيارة ليال، لكن ذات يوم سُرقت السيارة، وضاع معها ذلك الأرشيف النفيس… وحتى اليوم، لا أحد يعلم أين انتهى به المطاف.

في عام 1969م، بدأ زياد دروسه النظرية في الموسيقى على يد الأستاذ بوغوص جلاليان، لكنه توقّف بعد سبع سنوات بسبب الحرب. وفي عام 1971م، وكان حينها في الخامسة عشرة من عمره، لحّن أغنية "ضلّي حبّيني يا لوزية" للفنانة هدى، وكانت تلك أول تجربة احترافية له كمؤلّف موسيقي.

كما شارك زياد آنذاك في تلحين عروض ومسرحيات مثل: مسرحية بحر اللولو لآيلي شويري، ومسرحية ضيعة الحزازير لغسان زرزور، ومسرحية موسم الطرابيش بطولة مروان محفوظ، ومسرحية نورا تأليف غسان مطر، كما لحن مجموعة من الأغاني لمروان محفوظ ولآخرين.

وأذكر أن زياد، وقد بلغ الخامسة عشرة من عمره، أصبح محترفًا بحق، فاستعان آنذاك بـ "المنجّد الشريف"، ابن صابر الشريف، ليكون مساعدًا له. وفي أحد أيام الصيف في لبنان، كان يصوّر فيلمًا بعنوان الزهرة، تدور أحداثه حول عائلتين تتنازعان على بنت تُدعى زهرة يتصارع عليها أبناؤهما. وكانت أخته ريما هي بطلة هذا الفيلم، فكان يوقظها كل صباح عند الخامسة فجرًا ليبدأ التصوير، وهناك مشهد محوري كان يجب أن يُلتقط قبل شروق الشمس. كان يتطلّب أن تبكي ريما، فكان يعصر الليمون في عينيها لتذرف الدموع في اللحظة المناسبة! تخيّلوا… الخامسة صباحًا، وتكرار المشهد مرارًا حتى يبلغ اللقطة التي ترضيه، لكن النتيجة كانت، بحق، مدهشة.

أما موسيقاه التصويرية، فكانت تخرج نقية، تضاهي في جودتها التسجيلات الاحترافية في كبرى الاستوديوهات. أغلب أفلامه تراوحت مدتها بين عشرين وثلاثين دقيقة، فيما صنع أخرى قصيرة من ثلاث إلى خمس دقائق. كان الجميع حوله في حالة استنفار دائم لخدمة تجاربه؛ الأسرة، السائق، المربية، بعض الأقارب، أبناء العم والعمات… وللحديث بقية في الأسبوع المقبل، إن قدّر الله لنا البقاء واللقاء.

إعلان

إعلان