إعلان

الصروف والظروف ومصدات الاتقاء..

د.هشام عطية عبدالمقصود

الصروف والظروف ومصدات الاتقاء..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 02 يونيو 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يصنع البشر مظلاتهم فى هجير الحياة ويمضون تحتها اتقاء لحر أو مطر أو رياح أو غيرها من صروف الحياة ومستجدات ظروفها، ولكل مظلته بحجم ما تتسع طاقته وتؤكد مداركه وتصنع خبراته، لكنها تظل خيارا مهما يواكب السعى فى صحراء الحياة وكبدها، يعطى للروح تنفسا وللذات بقاء واتقاء فى مواجهة متلازمات العيش، وهكذا البشر فى رحلة الأيام ودروب الحياة.
"إن التأمل فى الحياة يزيد أوجاع الحياة" .. كم كان صادقا شفافا سباقا إلى المعنى الدقيق موجزا موحيا الشاعر إيليا أبى ماضى، ربما مقصده هو ذلك التأمل المفصل الذى يداخل الفرد صغيرا أو كبيرا، عادة أو اكتسابا، فيستقر سلوكا ليصنع الألم أو وجع الحياة كما صاغها فى مهجريته الشعرية الرائعة، حيث لا مفر من التأثر طالما تعيش لكنه هنا يحمل دعوة ضمنية للرأفة بالذات.
وحيث لا يعنى أبدا الدعوة لنقيض سلوكي كمسلك للنجاة من الألم والوجع، فالرحمة زاد الأرضيين ومتكئات بقاء، بل ربما يكون المقصد أنه على الفرد أن يتعامل رويدا مع ما يقابله أو يراه وفق قدراته وطاقة نفسه، فلا يسارع ليحمل ما ينوء به وما قد يحلو للبعض أن يوجهه نحوه أو حتى يقذفه به وقتما شاء، هى خبرة تتقدم وتبلور مصداتها مع الوقت بالتدبر والتفكير، وإن كان الطبع يكسب الجولات كثيرا.
وربما يحمل هذا البيت " قالت تغيرت .. قلتُ فى بدنى" فريد اللفظ تأليفا، بهى اللحن والغناء تعبيرا مكثفا عن فلسفة الأيام وهى تمضى .. فالشاعر صفى الدين الحلى من أهل بغداد أبدع هذه القصيدة خلال النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادى، وقد اختار محمد عبد الوهاب معظم أبياتها ليلحنها ويغنيها ويقدمها للجمهور فى العام 1944، وما بين زمان تأليف القصيدة وزمان تلحينها ثم الغناء ما يقرب من ستة قرون كاملة، ظلت الكلمات حاملة للدهشة والأثر الجمالى والتعبير عن شئ من سيرة الناس فى مدارات الأفلاك والمواقيت حتى التقطتها ذائقة عبد الوهاب فمنحتها عمرا مديدا، وحيث يبقى البيت الفذ كأنه موجز سيرة البشر فى الكون، وتعبيرا عن الثابت والمتحول ربما قليلا فى طبع الإنسان ونفسيته وعلائقه "الثابتة" بالأشياء والبشر بينما يصيب التغير حالة المظهر لا المخبر، الشكل والبدن وليس النفس وفى حوار عذب مصاغ شعرا يقول صفى الدين الحلى ويغنى عبد الوهاب:" قالت: تغيرت ؟ .. قلتُ فى بدنى".
وهكذا لم يعد الأمر خيارا سهلا على عادة أهل الزمان القديم، بأنه يمكن سد باب مجئ الريح - كل رياح مرهقة - لتستريح، ربما كانت وصفة سهلة يمكن أن تُقدم لتناسب بيوتا وأزمنة وشخصيات مضت، تليق بإنسان لديه باب واحد مزلاجه فى يده، ويمكنه غلقه والباب قادر وحده بصلابته على وقف صرير وعبور موجات الرياح العاتية المزعجة، ولأنه وقد انتهى هذا العصر، وحيث المخلوق الحالى قد نبتت له نتوءات جديدة صارت متصلة بكل شئ مكانا وبشرا، بل صار هناك مضافا جديدا أصبح من أهم أجهزته "الحيوية"، وهو "سمارت" ملازم لأصابع اليد ويسمى هاتفا، جزء من أصابع كل يد تقابلها، بحيث يجبرك على أن تدخل ساحة المعرفة / تواجه الرياح شئت أم أبيت دون وازع أو مغلاق من ليل أو نهار.
تتسع الحياة – ولطالما كانت كذلك دوما – لصروف وظروف ومصائر شتى لا ينفلت منها أحد، لكن ساحات المعرفة المرهقة التى لم تطبها وتحيط بك ما عشت، قد فرضت على الجميع عدم مراعاة فروق التوقيت صغارا وكبارا، فجمعت "الأحزان العادية" مكدسة فى سلة واحدة ووزعتها على رواد منصات مشاهدة وقائع الحياة كتذكرة دخول مجانية.
صار ذلك قانونا غير مكتوب لفضاء البشر على فضاءات العيش أون لاين ارتباطا بزيادة حجم السكان -الافتراضيين والواقعيين معا فى مزيج تشكل منهما- وكما يضغط الزحام على جودة آداء كل خدمة، جلب التكدس عوارضه على فضاء ساحات الأون لاين، شئت ذلك أم أبيت لتدخل حتما فى التجربة، ولتصنع مصدات اتقاء فى مواجهة صروف وظروف تتناثر كما الرمال على شاطىء المحيط الهادر.
الاستمرار فى ذلك – التعرض لموجات المحيط - بشروطه وتداخلاته وتقبله هو المعاناة ذاتها إذ يسعى نحوهما الإنسان جهولا غشوما، ولذا سيكون هناك دوما بحثا بشريا عن هدأة ورحمة، بديل يوازى سعى الإنسان وهو يمضى، وحيث كل يحمل طبعه كصخرة الأسطورة السيزيفية، يصعد بها مخففا أثرها، ثم حين يعتقد أنه أوشك البلوغ والتغير، تسقط الصخرة محملة ببعض من عرقه وأثر جلده لتعيد إنتاج طبعه جيناته وبصمته الأولى، شيئا يشبه تماما تذكرات الصبا حين تغادر وتصير فى الزمان البعيد نسيانا أو بعض ذكرى شاحبة، حتى إذا هبت نسائم عابرة تعود كأنها تستعيد الزمان والمكان والروح ذاتها، ولينطلق صوت عبد الوهاب ردا على سؤال: تغيرت؟ مسرعا بالقول:" قلتُ فى بدنى".

إعلان