إعلان

ما يحكيه تاريخ الأمكنة..

د.هشام عطية عبدالمقصود

ما يحكيه تاريخ الأمكنة..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 22 أبريل 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في كتابه الموسوعي الفذ "الخطط التوفيقية" والذي ينوء به الفرد الواحد إنتاجا معرفيا بحثا وعلما، يقدم على باشا مبارك تفسيرا مهما لتجشمه كل هذا العبء فكرا وجهدا في التخطيط والكتابة لكل هذا المحتوى في أجزائه العشرين والصادر عام 1888، حيث نستخلص كيف تنتصر العزيمة والفكرة المبررة فتنتهي بالمنجز وعن كيف للفرد أن يرى وسط الجموع غير ما يدركه الآخرون فيبقى له الأثر والسبق، حين يؤكد فيه أنه لم يجد من يساعده أو يشاركه في كتابه وحيث "لاحياة لمن تنادى"، هذا العمل يقدر بعض المؤرخين أن كتابته قد استغرقت ما يقرب من 16 عاما، وهو يستكمل به كما ذكر خطط المقريزى التي جعلها الزمان لا تتضمن ما يستجد من عمران وتغيير يقتضي أن يُحاط به ويُدون، ويخصص فيه على باشا مبارك أجزاء للمدن وشوارعها والأحياء وتاريخها، مانحا للقاهرة تموضعها وخصوصيتها.

وتمثل سيرة على باشا مبارك تعبيرا ملفتا عن السعي والطموح الإنساني وما يمنحه ذلك من عزم يتخطى حواجز الظروف والسياقات والمعرقلات، طفلا صغيرا لم يتجاوز 12 عاما يتحمل مسئولية بل وعبء أن يرتحل وراء حلمه، مغادرا قريته الصغيرة في الدقهلية عام 1835 ليلتحق بمنظومة التعليم الجديدة التي أنشأها الوالي محمد علي، وليتخرج في مدرسة المهندسخانة مظهرا نبوغا وتفوقا يؤهله للإبتعاث إلى فرنسا، ثم يعود إلى مصر فيتولى ديوان إدارة المدارس وليشرف على تطوير منظومة التعليم في عهد الخديوي عباس الأول، ثم يتبوأ مكانة خاصة في عهد الخديوي إسماعيل ويكون مسئولا في إطار خططه العمرانية عن تنظيم القاهرة الحديثة.

وننقل هنا من النسخة الخاصة للجزء الأول لسفره الكبير "من الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة" والكتاب يحمل تأليف "الجناب الأمجد والملاذ الأسعد سعادة على باشا مبارك حفظه الله" هو ربما تعبير تاريخي يصف الحالة الوظيفية المهمة والرفيعة التي كانت لعلي باشا مبارك وقت إصدار هذا الكتاب، وحيث يحمل الغلاف أنه الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية، سنة 1306 هجرية، أى في عام 1888 ميلاديا.

ويقدم الكتاب في هذا الجزء بعضا من أهم التواريخ والمفارقات وأيضا ما يستدعي سياقات المقارنة تاريخيا عبر العقود والقرون، فعن إدخال الماء النقي إلى القاهرة على نهج ما هو متبع في الدول الأوروبية حينها ونعرفه حاليا يقدم لنا على باشا مبارك قصة ذلك وكيف يتم صناعة القرارات وما قد يحمله ذلك من بعد نظر وتقدير للمواقف: "في سنة خمس وستين ومائتين وألف قصد عباس باشا آمر توزيع المياه فى القاهرة باستعمال وابورات رافعة للمياة وتوزيعها بمواسير داخل البلد، ثم عُرض عليه مبلغ التكاليف وهو مائة وثلاثون ألف جنيه فاستكثره وأعرض عن ذلك فلما آل الأمر الى الخديوى اسمعيل أخذوا فى اجراء العمل".

وعن تعداد السكان في ذلك الزمان البعيد وحيث يحتار العقل وهو يسأل كيف ومتى حدثت تلك التكدسات السكانية الخانقة وتراكمت، يقدم على باشا مبارك إحصاءات مثيرة للدهشة: "وفى التعداد الذى صار فى المحرم 1289 هجرية الموافق 11 مارث – هكذا ورد إسم شهر مارس فى الكتاب-سنة 1872 ميلادية كان عدد سكان القاهرة (349,883 ) ومن هنا يظهر أن أهالى القاهرة زادت في عشر سنين (24955) شخصا وبالتقريب خمسة وعشرون ألف نفس، وفي خطط الفرنساوية كان تعداد أهالي القاهرة مائتين وستين ألف نفس، فتكون الزيادة التي حصلت في ظرف ست وثمانين سنة مائة وخمسة عشر ألف نفس فيخص كل سنة 1337 نفسا، ويعلم من ذلك أن الرغبة في سكنى القاهرة كثرت فى أيام خلفاء العزيز محمد على عما كانت فى مدته، خصوصا رغبة الإفرنج فى سكناها بعد إنشاء السكك الحديد وتوزيع الغاز والماء فيها"، وهو يقدم لنا هنا تفسيرا ضمنيا عن كيف ازدحمت مدينة القاهرة ونمت سكانيا بفعل تركز المرافق والعمران وأيضا ما يستتبع ذلك من توافر المصالح التجارية والاقتصادية وهو ما جلب هجرات سكانية من الأقاليم والمدن الأخرى سعيا وراء كسب الرزق وتحسين سبل المعايش.

وفي ذات السياق يقدم لنا ملمحا عن التنوع السكاني وكيف شكلت القاهرة مدينة جذب كونية بفعل ازدهارها الاقتصادي والمجتمعي: "وعدد أهالي القاهرة على حسب التعداد الذى صار فى 3 مايو 1882 ميلادية هو ( 374838 ) منهم (22422) أغراب .. (7000 أروام) و (5000 فرنساوية) و (1000 انجليز) و (1800 نمساوية) و (450 ألمان) و (400 أعجام ) و (3367 طيليانية) و (230 أوروباوية من أجناس مختلفة )".

ولا يقف بنا عند حيز وصف العمران والشوارع وتطورها تاريخيا بل يمتد أيضا إلى تعريفنا بما عاشته القاهرة والمدن المصرية ذات يوم من طقس ودرجات حرارة تجعلنا نقارن فندرك تحولات الطقس ارتباطا بتغيرات بعضها طبيعى كدورات المناخ وبعضها بشرى يخص التكدس السكاني وارتفاع المباني وأثره في ارتفاع درجات الحرارة: "ومتوسط الحرارة في السنة ( 21,66 ) درجة وتختلف درجة الحرارة بحسب الفصول وبالنسبة لجهات القطر، ففي وجه بحري في ثلاثة شهور فصل الشتاء 12 درجة وأحيانا 14 درجة وفي ثلاثة شهور فصل الربيع ترتفع الى 24 درجة وفي ثلاثة شهور فصل الصيف ترتفع الى 29 درجة وفي ثلاثة شهور فصل الخريف تنحط الى 18 درجة وفي الأقاليم الوسطى تزيد عن الأقاليم البحرية بدرجتين، وعادة يوجد فرق جسيم في جميع البلاد المصرية بين حرارة النهار والليل حاصل عن هبوب نسيم من الجهة البحرية عند غروب الشمس ويشاهد أن حرارة الليل تنقص عن حرارة النهار ثماني درجات وتارة اثنتى عشرة درجة".

إعلان

إعلان

إعلان