إعلان

"النقشبندي".. تاريخ من الخذلان!

الكاتب الصحفي الدكتور ياسر ثابت

"النقشبندي".. تاريخ من الخذلان!

د. ياسر ثابت
10:27 ص الثلاثاء 12 أبريل 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

«كان شروعي في كتابة هذه الرواية هو سبيلي الوحيد للإفلات من قبضة جنونٍ أخذ يلاحقني مع اقترابي من حافة الأربعين» (ص 11).

والأربعون في عمر المرأة هي المرحلة التي يصبح لديها متسعٌ من الوقت للتأمل والندم!

تنظر بعين الريبة إلى الطبيعة والأيّام في اندفاع طيْشها وهي تنقضُّ نحو عامٍ آخرَ أكثر ريبةً وغموضًا. ها هي ذي تفكر في روايةٍ توقظُ الأحلام التي توشك على الانطفاء والرّحيل.

تتحدّث «نصرة غريب»، بطلة رواية «النقشبندي» (دار الشروق، 2022) عن رحلتها أو مغامرتها بقدرٍ كبير من البوح الشفيف، الذي يختلط فيه الألم بالغضب.

«مع اقترابي من هذه الحافة المرعبة، وقفتُ أنظرُ إلى أربعة عقود أوشكت أن تمضي من رحلتي، نظرة أسى، تُغلِّفها قشرة هشة من الرضا، دون أن أنتظر أن تجود عقودي القادمة بأكثر مما جادت به ما أسلفت.. وتحوّلت إلى قنبلة موقوتة من المشاعر توشك على الانفجار في أي لحظة في وجه الكل» (ص 11-12).

من هنا، تنطلق «نصرة»، الموظفة في هيئة الصرف الصحي، في رحلة بحثها عن معنى لحياتها، في ظل أزمات تهز علاقتها مع زوجها «أيمن حجازي».

إنها تعمد إلى البحث عن الذّات وإجاباتها في حيّزٍ ما، تحاول أن تجعله المرتكز الّذي تدور في فلكه، لتعيد تشكيله وفق رؤيتها الكامنة في ذاتها. والمكان له تعلّق غائر بالذّات الإنسانيّة، حيث إنّه الفضاء الّذي يجمع ذاكرة الإنسان، وتاريخه، وماضيه، ومن ثمّ فإنّ التّعلّق بين الذّات الإنسانيّة والمكان لا حدود له، لأنّ «المكان هنا هو كلّ شيء، حيث يعجز الزّمنُ عن تسريع الذّاكرة… إنّ الإنسان يعلم غريزيًّا أنّ المكان المرتبط بوحدته مكانٌ خلّاق» (غاستون باشلار، جماليّات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر، بيروت، 2000).

كان الحل الحتمي- من وجهة نظرها- هو أن تكتب رواية عن الشيخ سيد النقشبندي. ونقطة الانطلاق هي: طنطا.

هذه الرحلة هي تلك الومضةُ من برقِ الحنين إلى الجنّة المفقودة.

النمرُ الحبيسُ في القفص المُحكم الإغلاق يخبطُ القضبانَ بجراحِ الشّكيمة الدامي. يخبطُ الآفاقَ والجهات. أحلامُهُ تسرح في مهبِّ الفضاء والغابات؛ لكن جسده مشدودٌ إلى وتدِ الحديد.

تغادر إلى طنطا من غير خرائط ولا مودِّعين، باتجاه إلى أرضٍ مرصعة بالصوفية والدعاء، هي ديار السيد البدوي.

«ولأول مرة في حياتي، يتفوق واقعي على شطحات خيالي» (ص 12).

غير أن الخيال هنا يُسعف الروائية رحمة ضياء، فتبتكر طريقة فريدة للقاء «نصرة» والنقشبندي، الذي رحل عن دنيانا في العام 1976. ففي أثناء زيارتها لطنطا، تصاب في حادثٍ تتغير معه حياتها، وتفتح عينيها لتجد أمامها النقشبندي. تلفها الحيرة، فالاثنان من زمنين مختلفين، ليدور بينهما الحوار التالي:

«كيف التقينا، هل أنتَ من نزل إليَّ؟».

وأردفتُ وأنا أقطع الكلمات: «أم أنا التي صعدتُ إليك؟».

رد في صوتٍ رصين: «لا أعلم يا ابنتي.. سنعرف في الطريق».

وأردف مبتسمًا: «ما دام الله قد جمع شملنا لسببٍ يعلمه ولا نعلمه، فعلينا أن نتعارف» (ص 19).

في روايتها الأولى «النقشبندي»، تُلقي رحمة ضياء الضوء على حياة واحد من أشهر المُنشدين والمُبتهلين في تاريخ الإنشاد الديني؛ سيد النقشبندي، بما فيها من جوانب مُثيرة وعوالم غامضة، في الوقت الذي تضع فيه حكاية بطلتها نُصب عينيها. وهي تلجأ إلى رواية السيرة، التي تؤسس العالم وتبني الأحداث باستخدام تقنيات سيرة خيالية أو دمج عناصر السيرة الذاتية والخيالية.

تعمل الروائية على مد جسور بين بطلتها «نصرة» والشيخ النقشبندي، الذي تكتشف آلامه ومعاناته الشخصية وعلاقته المأزومة مع والده، كما تعيد اكتشاف سيرته -من طهطا إلى طنطا، ومن جذور العائلة في أذربيجان إلى القاهرة- في قالبٍ روائي وسردٍ سلس.

«نصرة» عاشقة المرايا والمتاهات، تعيش فجأة في زمن آخر يغزو أحلامَ النائمين، وتمضي فيه وهي مستسلمةً بوداعةٍ، وربّما بفرحٍ لنداء ذلك الخالد الأزليّ.

في هذه الأثناء، تستعرض «نصرة» حياتها وإخفاقاتها وتسرد تاريخًا من الخذلان.

«رأيتُني في كل رهانات الحياة التي خسرتها، والأحلام التي تركتُها تفسد على أرفف الانتظار، والكلمات التي أطبقت عليها فمي، ولم أفرغها في رأس كل من خذلوني.

رأيتُني وأنا أحاول أن أشرح كل ما يؤرقني، ولا أجد له أذنًا واحدة تسمع وتفهم شكواي، ويدًا تُربِّت على كتفي، دون أن تضعني في قفص الاتهام تُصدر عليَّ حُكمها المشدد» (ص 26).

تطل من شباك الحكاية تفاصيل دقيقة عن عشق النقشبندي لصوت محمد عبدالوهاب، وخاصة أغنية «يا جارة الوادي» (ص 31)، وأشواك انفصال والديه وزواج كل منهما من آخر، ونشأته في كنف خاله، ثم زواجه من «صدِّيقة»، إضافة إلى شهرته المتأخرة وهو على مشارف الخمسين.

تصارحه «نصرة». «قلتُ له: «أنا مثلك، جرّبتُ الشعور بالنبذ.. أن ينبذك أكثر من تحب في هذه الدنيا ولا تعرف حتى أي ذنبٍ اقترفت.. نبذني زوجي. صحيح أنه لم يفارقني بجسده مثلما فعل والدك، لمن أفعاله نبذتني» (ص 51).

تتابع اعترافاتها. «كنتُ أجلس على أرض الحمام أبكي فشلي في كل جوانب حياتي.. فشلي كزوجة وكأم وصديقة.. فشلي حتى في محاولاتي أن أصير كاتبة، كان يسيطر علي إحساسٌ أني لستُ جذابة بما يكفي» (ص 53).

إلا أن الدرس الأهم الذي تعلّمته «نصرة» من النقشبندي يخصها أكثر مما يخصه.

«سألته: «كيف استطعتَ أن تتجاوز ما مررتَ به دون أن تسخط على قَدرك؟»

قال: «الرضا لمن رضيَ يا نصرة.. لقد سخِطتُ أيامًا طويلة، لكني لم أعاقب بسُخطي أحدًا سوى نفسي» (ص 48).

تمزج المؤلفةُ بين الجانب التوثيقي والتخييل، لتقدم للقارئ جانبًا غير مَرويٍّ عن شخصية ثرية تتمتع بصوت وصفه الموسيقيون بأنه أحد أقوى وأوسع الأصوات مساحة، بما يجعلك تغوصُ معها في رحلة مُدهشة تبدو في ظاهرها أنها تغوص في عوالم الصوفية، لكنها تكشف أيضًا مَلْمَحًا من تقلُّبات النفس البشرية ومشاعرها المُنقسمة دائمًا.

يدور السرد داخل العمل في زمنين بالتبادل بين الفصول زمن «نصرة» البطلة في الوقت الحاضر، وزمن النقشبندي بالماضي.

في الرواية التي فازت بجائزة خيري شلبي للعمل الروائي الأول عام 2021، مساحة مختلسة من الضحك، ومن ذلك المشهد التالي:

«أخذتُ أضحك فجأة، والشيخ سيد ينظر لي حائرًا، سألتُه بنبرةٍ لاذعة: «أليس سخيفًا أن نحمل أسماء لا تشبهنا؟! لقد هزمتني الحياة شر هزيمة ومع ذلك أنا «نصرة»» (ص 55).

وإذا كانت «نصرة» اكتشفت حقيقة ما جرى لها عقب حادثة طنطا «لم أمت يا شيخ سيد.. لا تزال هناك فرصة.. لا يزال هناك بصيصٌ من النور في نهاية النفق» (ص 221)، فإن هذا كان إيذانًا بفراقهما، في حين يرن في الأذن سؤال «نصرة» المدهش:

«لماذا نحِبُّ الأموات؟!» (ص 221).

...

لم ينتهِ العالم.. ها هي ذي «نصرة» على سدّة الكونِ من جديد.

إعلان