إعلان

الستر والسعي.. شيء عما صار معروفًا بحوادث فتيان وفتيات "التيك توك"..

د.هشام عطية عبد المقصود

الستر والسعي.. شيء عما صار معروفًا بحوادث فتيان وفتيات "التيك توك"..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 19 فبراير 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بعض من بهجة العيش يكمن في فكرة السعي والعمل والتحقق من خلالهما، أن تصنع منجزك الحياتي كدًا وفخرًا، وحيث يمثل ذلك واحدًا من أهم أسباب الحبور والغبطة وما يشبههما وما يقع داخل دوائرهما من مترادفات، هو شيء يشبه بالتعبير العصري دور مضادات الأكسدة في فعلها السحري داخل أنسجة الكائن الإنساني، وكما يصفه خبراء الطب وعلوم الأحياء.

ثم هناك ذلك المفهوم عظيم الأثر عن "الستر" مقام وجود وطلب ومناجاة، ستر الله يظلل الإنسان عملًا وجهدًا، فيتدارك ما فاته في مدارات السعي سهوًا أو خطأ أو نهمًا أو تعثرًا، ذلك الستر الجميل في الحياة بتعريف من قطعوا شوطًا في الحياة ومنحتهم التجارب ثمارها المرة والحلوة معًا، بأن يظل الإنسان -ما شاء الله له ذلك- بعيدًا عن عوز أو حاجة ملحة لآخرين فينكشف ستره، وحيث ختم دومًا الجدود والآباء به دعاءهم إلى الله وعشنا زمنًا حتى ندرك عظمة ذلك وبساطته وجدواه معًا.

شيء من كل ذلك سعيًا وسترًا أطاحت به مستجدات العيش بثًا مباشرًا على تطبيقات منصات التواصل في الهواتف الذكية وما سواها، وحيث تترى وقائع أخص ما يشكل الحياة الشخصية على منصات التواصل في خضم عرضها اليومي المباشر لتفاصيل ظلت محجوبة قرونًا، والذي يقتات على تفاصيل معايش الناس قصدًا وتعمدًا، وحيث يحلو للبعض أن ينزل إلى بحيرات حبائل ذلك "الشو" الذي تتيحه مجانيًا، تتبعًا قصير النظر لمغنم مرجو قريب أو هكذا يرونه يلوح، وحيث صارت قيمة السعي لدي البعض مجرد خلفية تبهت في مجال حياء طلب الأشياء وتحقيقها، وقد رأوا وتابعوا المشاهير والأثرياء يستمتعون بالدنيا هونًا على هوى منصات التوصل وأخواتها.

هنا ربما تكمن أولويات وسائل الإعلام الأساسية في ألا تنجرف في صناعتها ومحتواها إلى مدارج منصات التواصل، فيتشابهان حديثًا لا يصح ولا يؤسس لبقاء لها، وحيث هما بالضرورة يختلفان دورًا وأداءً وفلسفةً وهدفًا، بأن تحافظ على منح محتوى يعيد التأكيد على القيم التي تصنع الحياة حقًا، وليس افتراضًا، واقعًا، وليس تخييلًا، بناءً ونموًا ذاتيًا وجماعيًا، وليس ترويجًا لحلول فردية تصيب البعض صدفةً كما يتزامن البرق والرعد ويمعن الكسول والغافل النظر وهو يحسب ذلك ضياءات.

تمنح قراءة حوادث فتيان وفتيات الـ"تيك توك" وتطبيقات التواصل الاجتماعية الأخرى دلالات اجتماعية محذرة وتستدعي التوقف مليًا، حيث تم توظيفها تقليدًا من خلال بعضٍ ممن لا يملكون مهارة حياتية، ولم يحظوا بفرص تعليم تصنع لهم وجودًا مهنيًا يمدهم بحرفة ووسائل معيشة، ولم تمنحهم احتواءات الأسر والمؤسسات الاجتماعية الأخرى تجربة تربية تنمي فضائل في السعي وقيمته، فظنوا أن إتاحات اليسر الذي يرون به من صاروا من المشاهير هو من لوازم كل شخص، وإلا فإنه لا يكون حيًا، فتوسعت الحوادث من مجرد فتيان وفتيات يعبثون قليلًا أو كثيرًا؛ لتدخل فيها أسر صغيرة شابة يقدمون حياتهم مع أطفالهم على الهواء مباشرة طمعًا في جمع عوائد المشاهدات واللايكات، ثم توسع الأمر؛ ليضم تقليدًا لما يشبه تليفزيون الواقع في أسوأ نماذجه الحياتية ولا إنسانيته وغياب قيمه؛ ليغيب أحيانًا الستر في تحدٍ وتحولٍ عن ضرورات الحياة، وما يدوم عليه البقاء والعيش كما تعلمناه على هذه الأرض منذ فجر التاريخ.

وحيث مضى الأمر؛ ليشمل ما يشبه منصات الإعلان والترويج العام للأجساد والأفعال بها، ليظهر بعض مما بقي منعزلًا ومخفيًا زمنًا، وحيث هو مدانٌ وعيب اجتماعي؛ ليصبح مع الوقت فخًا ممكنًا يغري البعض بما قد يمنحه من عائد يظنونه ماءً وهو سراب، وحتى وصل الأمر في بعض الحالات لتشهير وفضح متعمد طال أسرًا -تستوي في فقرها وثرائها- ونقلت عنه وتابعته كثافة وتفصيلًا وسائل الإعلام الأساسية ومواقعها وكأنها تستلذ بالأثر وتقتات على ما تبقى من فتات فضائح تنثره لها منصات التواصل، وذلك رغبة في متابعة آلاف العابرين الهائمين، ودون أن يدركوا أنهم بذلك لم يبذلوا جهدًا مهنيًا في بناء قاعدة جمهور مخلص يتابعهم بانتظام، ويشكل نموًا مهنيًا ومؤسسيًا واقتصاديًا، وما أبأس ذلك من تقليد!.

عاش الناس على هذه الأرض آلاف السنوات بناءً وإنتاجًا وسعيًا وكدًا، ولولا ذلك ما بقيت حضارتهم في ظل ندرة الموارد وزيادة كثافة التناسل البشري، علينا أن نعي ذلك يقينًا، ومن ثم سيكون من العبث تمامًا أن تشارك وسائل الإعلام في تقليد ما نماذج معيبة من فضح الستر على منصات التواصل، ومن ثم تقليل جدوى السعي في الحياة، تابعة ومقلدة لبعض أسوأ الآثار الجانبية لتطور ظاهرة وأدوات الاتصال البشرى.

إعلان