إعلان

وحيد حامد.. طائر السينما الذي سافر ولم يغادرنا

د. أمــل الجمل

وحيد حامد.. طائر السينما الذي سافر ولم يغادرنا

د. أمل الجمل
05:14 م الأحد 03 يناير 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

على شاطئ النيل بمكانه المعتاد للكتابة بأحد فنادق القاهرة التقيت به، كان ذلك قبل عدة سنوات، عندما أُعلن عن تكريمه في مهرجان دبي السينمائي بجائزة إنجاز المبدعين.

كان الكاتب والسيناريست المصري الكبير وحيد حامد، آنذاك، عائداً قبلها بأيام من رحلة علاج بألمانيا للاطمئنان على القلب وشرايينه.

استقبلني بابتسامة رقيقة، وعلى الطاولة الممتدة أمامه استقرت أكواب الماء والشاي الأخضر، وحقيبة سفر مفتوحة كانت تحوي كتباً وصحفاً ومجلات كان يُطالعها. كنت أعلم أنه طقس يحافظ عليه منذ أغوته نداهة كتابة السيناريو للوسائط المختلفة بداية من الإذاعة التي دخلها بالصدفة، ثم السينما التي سعت إليه بنفسها بعد نجاحاته الإذاعية.

رغم ابتسامته المرحبة كان الشجن وشبح الحزن بادياً على ملامحه وهو يرنو للأفق. عندما سألته عن أحواله الصحية مشيدة بمستوى الطب في ألمانيا بادرني قائلاً: «الجسم طالما اتفتح خلاص.. لا يمكن يرجع زي الأول".

أعترف أنني شعرت بالإحباط يومها. لم أجد الإنسان المقاوم المتحدي الذي توقعته، كأن المرض لم يكتفِ بأن يأخذ من إرادته وفقط، لكن شعرت بأن المرض قد هزمه، فأصابني الحزن على حاله. والتمست له العذر لأني أُدرك تماماً أن هناك أناسا يصيبهم الوهن في مواجهة شراسة المرض، لذلك عندما سمعته لآخر مرة وهو على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية في أثناء تكريمه بمهرجان القاهرة السينمائي، وهو يقول كلمته المؤثرة ويختتمها بأنه «أحب أيامه، وأحب السينما، وأخلص لها وتفاني في عمله» أعجبتني إرادته رغم أن الكلمات بدت كأنها رسالة وداع، ولهذا السبب بكى الكثيرون لحظتها، لأنهم شعروا به كأنه يرثي نفسه.

أعترف، أيضاً، أنني صحيح سعدت بلقائه في ذاك اليوم البعيد، وأنه تحدث إليَّ- في حوار مسجل- عن تفاصيل في تكوينه الثقافي والمعرفي لم يسردها في حواراته السابقة، وأن الحوار بيننا امتد نحو أربع ساعات، مع ذلك لم يخرج الحوار كما كنت أتوقعه أبداً، خصوصاً في ظل ما أعرفه عن جرأته المعهودة، لكنه في ذاك اليوم لم يكن معطاءً في ردوده بقدر ما توقعت، كان محافظاً متحفظاً في تعبيراته، بعض الأسئلة ترك الجواب عنها مفتوحاً دون أن يغلق القوس، قابل بعضها بالصمت؛ ربما كانت أسئلتي شائكة ومحرجة، أو ربما أراد أن يترك الأمور التي أثرتها غامضة تحتمل التأويلات، خصوصاً التأويلات التي طرحتها في مقال لي- سابق على اللقاء- عن أفلامه وعلاقته بالسلطة، وعلاقته بمخرجي أفلامه، وفي مقدمتهم شريف عرفة، ومشكلته مع فيلم أخرجه علي بدرخان، وهل حقاً أنه لم يقبل من أي نجم أو مخرج أن يقوم بتعديل أفكاره وسيناريواته؟!

رغم كل ما سبق، لا يمكن أن يُؤثر شعوري إزاء هذا الحوار على مكانة وقيمة وحيد حامد عندي، فأفلامه جزء من تكويني الإنساني والثقافي، وستظل رافدا يمتعنا عبر الأزمنة.

أتذكر أنه قرب نهاية الحوار حدثني عن الطيور التي كانت تمر أمامه- في هذا المكان البديع على نهر النيل- في نفس ذلك الموعد من كل عام، بنفس الكثافة والتشكيل والأداء الحركي في الطيران، لكنه لم يرها ذاك العام، وبدهشة طفولية كان يتساءل: لماذا اختفت؟!

لوهلة شعرت أنه يلجأ للرمز في تلك الواقعة أيضاً، فسألته عن سبب هذا الحزن، فعاد لسنوات الصبا والشباب بالقرية ليقارن بين الماضي والحاضر قائلاً: «الذكريات الطيبة تعيش معي للآن، عشت فترة الستينيات، قضيت طفولتي في القرية عندما كانت القرية لا تزال بخيرها، وعلى طبيعتها، فلم يكن العدوان قد وقع على الأراضي الزراعية. كنت أصعد إلى سطح البيت فأرى بيوت القرية المجاورة رغم أنها تبعد عنا عدة كيلومترات. كانت قيم وأخلاق القرية لا تزال على الفطرة.

الآن عشوائية البشر هي الغالبة لكل العشوائيات التي نعاني منها - يصمت لحظة قبل أن يُضيف- من الجُمل المؤلمة في «عمارة يعقوبيان» جملة حوار للفنان عادل إمام يقول فيها: «إحنا في زمن المسخ".. ثم يُضيف وحيد حامد: «فما بداخلي ليس فقط الحزن، لكن ما هو أكثر من الحزن".

أما الحوار نفسه الذي اقترب من خمسة آلاف كلمة، وتطرق لقضايا عديدة فله مناسبة أخرى.

وليرحم الله كاتبنا الكبير وحيد حامد، ولترقد روحه في سكينة وسلام، وليطمئن؛ لأنه سيظل دوما معنا بأفلامه وكلمات حواره الذي يُشكل جزءًا مهما من تاريخ السينما المصرية وميراثها.

إعلان