إعلان

موت "مليكة" ليس حلًا

د. أحمد عمر

موت "مليكة" ليس حلًا

د. أحمد عبدالعال عمر
07:01 م الأحد 23 أغسطس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

المرأة في المجتمعات الذكورية المغلقة المتخلفة هي "المرأة" التي تتجلى فيها كل أمراض المجتمع، وهي التي تعيش خراب العقول والنفوس والذمم، وتدفع ثمنه، وتصبح ضحية له.

وتزداد معاناة تلك المرأة عندما تجمع في ذاتها بين روح وشقاوة الطفلة، وجمال جسد وملامح الأنثى؛ لأنها في تلك الحالة تصبح دائمًا مطمع أشباه الرجال، فإن تصرفت على طبيعتها أدنوها وازدادوا طمعا فيها ونبذوها، وإن كبحت جماح روحها وحبها للحياة، احترقت وتصدعت في داخلها، واغتربت عن ذاتها ومحيطها، وعاشت في سجن مفتوح بلا قضبان.

وهذا، في ظني، ما صنع مأساة "مليكة"، إحدى بطلات رواية ومسلسل "واحة الغروب" للأستاذ بهاء طاهر؛ فهي نموذج يُجسد أجمل وأشقى النساء في مجتمعنا؛ فلا هي طفلة ولا هي امرأة ناضجة، ولهذا هي جميلة، ولهذا هي تعاني في مجتمع قاسٍ لم يفهم أبداً روحها وشخصيتها وأحلامها وشكل إحساسها بالحياة.

يقول عنها خالها الشيخ يحيى: "عذبتِ أمَّك يا مليكة وعذبتْكِ؛ عذبتِها أولًا بجمالك الذي كسف كل جميلات الواحة.. ظلت خديجة في طفولتك تُلطخ وجهك بالهباب، وتلبسك أقذر الثياب، لكنك ظللت مع ذلك أجمل البنات. يتوقف الكبار في الطريق ليتطلعوا إلى ملامحك الفاتنة وهم يقولون: ما شاء الله! فتزيد أمك هلعًا عليك، وتحاول أن تسجنك في البيت لا تخرجين منه. لكنك ما إن كبرت قليلًا حتى تعلمت الهرب من البيت، تلبسين جلابيب الصبيان، وتخفين شعرك الناعم تحت طاقية، ثم تجولين في البلدة على راحتك".

وبالفعل، فشلت كل محاولات الأم خديجة في تقييد روح الطفلة مليكة، وقتل حبها للحياة ومتعة اكتشاف العالم، ولهذا ظنت أنها ممسوسة بشيطان يجعلها متمردة ومختلفة عن الجميع.

ويكشف هذا الحوار الرائع بين مليكة وخالها الشيخ يحيى مقدار جمال وذكاء هذه الطفلة.

وقد دار هذا الحوار بينهما في حديقة للنباتات الطبية يملكها الخال: "تسألني مبتسمة وهي تقلب عينيها بين النباتات: وهل بينها دواء لي؟ دواء لماذا يا مليكة؟ دواء يشفي من الشيطنة. فابتسم: إلا دواءَك يا مليكة. ولكن أمي تقول: إن شيطاناً يركبني، ومعها حق: لماذا أنا غير البنات؟ لم أقل لها إنها النعمة الوحيدة في البلد، وربما هي غلطتها الوحيدة، لا أدري".

وبالفعل، كانت غلطة مليكة الوحيدة أنها "مختلفة"، ولم يستطيع أحد أن يمنع مليكة من أن تكون على غير طبيعتها اتساقًا مع قيم ومعايير مجتمعها البالية، فلا الضرب صلح معها ولا الملاينة، لا وهي طفلة ولا وهي كبيرة؛ ولهذا وجدت أمها الحل في تزويجها قبل أن تبلغ الخامسة عشرة من "معبد" العجوز الذي يصلح كجد لها. لتفر بعد فترة قصيرة مليكة من بيت زوجها، وتعود إلى بيت أمها تطلب الطلاق. وتصرّ على ذلك رغم تواطؤ الجميع لإعادتها إلى بيت زوجها اتساقاً مع قيم ولعبة التوازنات العائلية والقبلية في مجتمعها. وقد أثار السلوك جنون أمها، خاصة مع عودة مليكة لممارسة هوايتها القديمة في الهرب مرتدية زي الرجال، والتجوال بين أطلال خرائب ومعابد ومدافن الملوك القديمة، واستخدام الطين والصلصال في تشكيل تماثيل لحيوانات وطيور تُشبه المرسومة على جدران خرائب الملوك.

ولهذا ظنت الأم من جديد أن مليكة مسكونة بالشياطين التي تجعلها مختلفة ومتمردة، وتقرر أن تنهال عليها بقوة ضربًا بالعصى لتُؤدبها، وتخرج الشياطين من جسدها؛ لتموت مليكة فجأة بين يدي أمها.

وأظن أن موت "مليكة" في الرواية والمسلسل كان حلاً ملائمًا لجميع الأطراف: فهو حل أولًا لمليكة يقضي على اغترابها في جغرافيا الواحة القاسية والخانقة، ويحملها إلى "رضوان" حبيبها المُتوفى.

وهو حل ثانيًا يقضي على بوادر الفتنة والصراع بين عائلتها وعائلة زوجها.

وهو في النهاية حل للرجال والنساء القساة من سكان الواحة، يهبهم نصراً يُعيد النظام للواحة وثقافتها وقيمها وعلاقاتها الاجتماعية، ويضمن لها الاستقرار الهش الذي يعيشون فيه.

ولكني أرى أن موت ملكية واتفاق جميع الأطراف على تجاوزه وطمس حقيقته وغلق ملفه لن يقدم إلا حلاً مؤقتاً للواحة وسكانها، لأن كل ملفات الواحة الإنسانية وخاصة ما يخص منها التغيير والتطوير والعلاقات الاجتماعية والحب ومعنى الحياة وجدواها- سوف تظل مفتوحة، وسوف تطرح المزيد من الأسئلة المُقلقة، وسوف تخلق مزيدًا من الضحايا من أصحاب العقول والأرواح والشخصيات المختلفة المميزة المحبة للحياة مثل "مليكة.

والحل الأمثل، في ظني، يكمن في حتمية توقف سكان (الواحة/ المجتمع) عن الهروب للإمام، وإدراك أن أصل الداء يكمن في ماضيهم ومنظومتهم القيمية والمجتمعية، وأنهم بحاجة لامتلاك شجاعة المواجهة والتفكيك والنقد لإعادة بناء مجتمعهم ليصبح أكثر إنسانية، وإعادة بناء حياتهم وحكايتهم الخاصة، لتصبح مبهجة وذات معنى.

وبدون هذا الحل، سوف يظل سكان الواحة، وكل من هو على شاكلتها من مجتمعات تقليدية وذكورية مغلقة- مسكونين لا شعورياً بغواية الغروب، ونشوة الموت، ولن يكون لهم شروق إنساني أو حضاري حقيقي.

إعلان