إعلان

بناء سفينة نوح باتساع الوطن

د. أحمد عمر

بناء سفينة نوح باتساع الوطن

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 07 يونيو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


بعد أكثر من أربعة عقود من التراجع والتردي العام، وفقدان الدور والمكانة، وتدهور المنظومة القيمية والمعرفية في مصر، أصبحت الفلسفة المُسيطرة على وعي الشعب المصري بأغلب طبقاته وفئاته والمُوجهة لسلوكه وأفعاله هي "فلسفة كأن المصرية".

وفلسفة كأن تعني أنه لا شيء حقيقيا أو صادقا حولنا، وأن واقعنا وحياتنا ظلالٌ وأوهامٌ وتمثيلٌ متبادلٌ بين الجميع؛ فكأننا نحيا، وكأننا نتعلم، وكأننا نُعلم، وكأننا نعمل، وكأننا ننتج ونطور، وكأننا نملك مؤسسات وأحزابا وحياة سياسية، وكأننا نُصلح الوضع القائم ونغير الواقع، وكأننا نقوم بكل شيء على أكمل وجه، رغم أننا في الحقيقة لا نفعل شيئًا، ونسير في المكان حينًا، ونرجع للخلف في أغلب الأحيان.

وهناك فارق كبير بين "فلسفة كأن المصرية" و"الفلسفة المثالية الألمانية" التي ترى أن المثال وما ينبغي أن يكون هو كل شيء، وتنطلق من افتراض وجود المثال والإيمان بإمكانية تحقيقه، لكي تجعله ببذل الجهد والإخلاص في العمل حقيقة وحياة تُعاش، يجني ثمارها الناس.
أما "فلسفة كأن المصرية"، فهي فلسفة واقعية لها جذور تاريخية واجتماعية ونفسية عميقة في مصر، وهي تُؤسس على اليأس من إمكانية تغير حالنا وواقعنا إلى الأفضل.
ولهذا فهي "تُؤسطر" الواقع المتردي حولنا، أي تُضفي عليه صفات أسطورية خارقة، تجعله راسخًا وأصيلًا وقدرًا أبديًا غير قابلة للتغيير، وتجعل شعار التعامل معه وقبوله، هو مقولة المصريين الخالد: مفيش فايدة.
وهذا يعني أن "فلسفة كأن المصرية" هي في وجهها الآخر فلسفة في اللامبالاة وعدم الاكتراث. وهي حيلة مصرية أصيلة تهدف للحفاظ على التوازن النفسي، وتقبل خيبة الأمل، والتعايش مع الواقع المتردي الذي يصعب تغييره.

لكنها - وإن نجحت هذه الفلسفة في أن تكون لصاحبها خشبة خلاص، تُمكنه من الوصول لحالة التبلد التام، وفقدان الإحساس بالآخرين والشأن العام- تؤدي بعد ذلك إلى التدهور والتردي العام، وإلى تعميق حالة الانقسام والتشرذم المجتمعي، ليصبح لسان حال كل إنسان ومجموعة طبقية أو مهنية في مصر: "أنا ومن بعدي الطوفان".

ولهذا ينبغي على المخططين اليوم لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وحماية ثوابتها الوطنية، وحماية أمنها القومي، ومواجهة المخاطر والتهديدات التي تستهدفها، وتصويب أخطاء أنظمة الحكم السابقة في العقود الماضية - أن يصنعوا للمصريين "ثورة للأمل في المستقبل".
ثورة تمحو وجود وظلال "فلسفة كأن" من عقل وحياة المصريين، ليقوم كل منا في موضعه بواجبه كما ينبغي أن يكون، وهو يضع الآخرين والمصلحة العامة أمام عينيه إلى جانب المصلحة الخاصة، وربما قبلها.

إن طوق نجاتنا في مصر اليوم هو بناء سفينة نوح على اليابسة باتساع الوطن، لنحافظ على وجودنا ومصالحنا وثوابت أمننا القومي في مواجهة طوفان المتغيرات الإقليمية والدولية حولنا. وفي مواجهة طوفان المخاطر والتهديديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية التي تستهدفنا على أكثر من اتجاه، ومن مصادر متعددة.

وبناء سفينة الوطن تلك وقيادتها لبر أمان يحتاج لتضافر وتعاون تام بين النظام الحاكم في مصر والقوى والنخب الوطنية كافة، وبناء جبهة وطنية قوية تُؤسس على روح 30 يونيو 2013.

كما يحتاج لإعادة بناء الإنسان المصري معرفيًا وقيميًا، لإعداد مواطن واعٍ وإيجابي. مواطن يعمل دائمًا ما ينبغي أن يكون، ويقوم بواجبه على أكمل وجه، لأنه يملك أملًا في المستقبل، وإحساسًا عميقًا بالعدالة والمسؤولية المجتمعية، وثقة تامة بمؤسسات الدولة وأجهزتها وقياداتها، وقناعة جديدة بأن هناك "فايدة".

إعلان