إعلان

المبادرة المصرية وأسئلة مرحلة مفصلية في ليبيا

محمد جمعة

المبادرة المصرية وأسئلة مرحلة مفصلية في ليبيا

محمد جمعة
07:32 م الخميس 11 يونيو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تتسارع التطورات والأحداث في لحظة حرجة ومفصلية للصراع في ليبيا وعليها، على النحو الذي يؤكد أهمية المتابعة الدقيقة لما يحدث هناك.

في سياق كهذا ثمة أسئلة كثيرة تطرح، بعضها يتعلق بتقييم ما حدث بالضبط على الأرض خلال الأسابيع الأخيرة، وانعكاس ذلك على موازين القوى في داخل ليبيا.

أو ما يتعلق بالتصعيد الراهن حول مدينة سرت، كونه يبدو محطة كاشفة لجوهر مواقف الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع الليبي، وحدود ما يمكن أن تصل إليه هذه الأطراف من إجراءات وتدابير عسكرية وأمنية، أو حتى تحركات دبلوماسية وسياسية، خاصة أوروبا.

كذلك، تتعلق بعض هذه الأسئلة بعلاقة ما سبق ذكره بالمبادرة المصرية الأخيرة، والأهداف والدوافع وراء طرحها في هذا التوقيت، وانعكاسات ذلك على مسارات الصراع في تلك المرحلة المفصلية.

ابتداءً، ينبغي أن تخضع عملية تقييم التقدم الذي أحرزته ميليشيات "حكومة الوفاق" على الأرض، إلى نظرة أعمق للمعطيات على الأرض، خاصة وأن التساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الميليشيات المتناحرة في طرابلس وحولها (والتي لم تجتمع إلا على العداء لحفتر)، لا تزال مثارة... بمعنى، أن حملة الجيش الوطني العسكرية على العاصمة طرابلس، منذ أبريل 2019، ساهمت فيما مضى في توحيد تلك الميليشيات المتناحرة في داخل العاصمة وحولها.... الآن، وبعد أن تراجع "خطر حفتر" هل ستعود هذه الميليشيات إلى الاقتتال من جديد (مثلما كان الحال قبل بداية حملة الجيش على طرابلس)، وهل ما حدث قبل 48 ساعة فقط في مجمع مليتة للنفط والغاز في منطقة الغرب بين صبراتة وزوارة (اقتحمته عناصر بعض الميليشيات بعد تأخر الإتاوات التي تتلقاها نظير الحماية الأمنية، وتوقف العمل لبعض الوقت) يشير إلى أن التناقضات فيما بينها ستتعمق من جديد، على النحو الذي يمكن أن يقوض، في الحاصل الأخير، من قدرة الطرف المضيف والشريك (التحالف الذي تقوده حكومة الوفاق) لتركيا؟!

ثم ما هو تأثير استجلاب عناصر خارجية (سواء من المرتزقة، أو عناصر تنظيمات السلفية الجهادية) على المشهد الميليشياوي ككل في غرب ليبيا بعد أن تراجع "خطر حفتر" عليهم؟، وهل ستلجأ الميليشيات المؤدلجة إلى ذبح العناصر غير المؤدلجة من الميليشيات المحلية؟ وكيف سيكون رد فعل القبائل وجماعات المصالح (التي تمثلها تلك الميليشيات المحلية) على ذبح أبنائهم؟!.

هذه الأسئلة تبدو مهمة في ظل تقديرات بأن ليبيا قد تشهد حربًا (أو حروبًا) داخل الحرب، عبر المزيد من التشظي والانقسامات داخل المعسكرات المتحالفة ذاتها !

أما في شرق ليبيا، فالتساؤل الرئيسي الآن يدور حول الثمن السياسي لإخفاق الجيش الليبي في حملته على العاصمة طرابلس. وحدود تأثيره على موازين القوى بين الأطراف التي تشكل التحالف الذي يقوده الجيش، سواء لجهة العلاقة بين قائد الجيش خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، أو لجهة العلاقة بين قيادة الجيش وبعض القبائل الداعمة له؟

* من ناحية ثالثة، ثمة تساؤلات أخرى حول حدود التصعيد الراهن حول مدينة سرت، والنتائج التي ستفرزها، وانعكاسات تلك النتائج على موازين القوى الداخلية، وامتداداتها الإقليمية والدولية أيضًا؟

صحيح أنه لا حلول عسكرية لصراعات ليبيا أو الإقليم، لكن التسليم بذلك لا ينفي أن الوسائل العسكرية تظل أساسية؛ لتحقيق النتائج السياسية. بل إن التطورات الأخيرة في غرب ليبيا تظهر من جديد أن لبيبا (بعد سوريا)، هي بمثابة دليل آخر على أن القوة العسكرية عامل حاسم.... ويعكس الهجوم المستمر للميليشيات التابعة لحكومة الوفاق على مدينة سرت، إنها لن تبدأ محادثات ذات مغزى إلا بعد استنفاد المكاسب العسكرية (وفقًا لحساباتها) والوصول إلى نقطة انسداد عسكري من جديد، أي التيقن من استحالة التقدم أكثر من ذلك. وهنا يبرز التساؤل الرئيسي، هل سينجح الجيش الليبي في هذه اللحظات بفرض نقطة الانسداد هذه، من خلال نجاحه ليس فقط في صد ميليشيات "حكومة الوفاق" عن سرت، بل وتكبيدها خسائر فادحة بما يجبرها على قبول وقف إطلاق النار الذي دعت إليه المبادرة المصرية؟.

* هذا التساؤل الأخير، يستتبعه سؤال آخر مهم بشأن الأهداف والدوافع التي تقف وراء إطلاق القاهرة لمبادرتها الأخيرة؟، هنا ربما يتعين لفت الانتباه إلى ما يلي:

إن كلمة السر في التطورات الميدانية الأخيرة في غرب ليبيا تعود بشكل غير مباشر إلى يناير الماضي، عندما حاولت روسيا وتركيا فرض وقف إطلاق النار بصيغة تعزز من نفوذهما الإقليمي في ليبيا وعلى حساب أطراف إقليمية ودولية أخرى.

وترتبط بشكل مباشر بما حدث تحديدًا في يوم 23 مايو الماضي، عندما انسحبت مجموعة فاجنر الروسية من مواقعها في بعض مناطق الغرب حول العاصمة طرابلس، بالتزامن مع تعليق الغارات الجوية من الطائرات بدون طيار التي تديرها تركيا، لحين إتمام مغادرة مجموعة فاجنر لمواقعها... هذه المعطيات تشير بشكل واضح إلى أن حملة الجيش الليبي على طرابلس وقعت في النهاية ضحية للتفاهم الروسي – التركي الذي لا يقصد توحيد ليبيا، وإنما تتعاون موسكو وأنقرة من أجل إعادة إنتاج تجربة تقاسم النفوذ بينها في ليبيا....

* الآن، قطع الطريق على تلك المحاولة يتطلب عدم الاستمرار في عسكرة الصراع أكثر من ذلك، والابتعاد به عن المعادلات الصفرية، واستيعاب أكثر للديناميكيات القبلية في السياق الليبي.... إذ أن مجرد تجميد الصراع في ليبيا يقوض الجدوى الاقتصادية للتدخلات الروسية والتركية، والتفاوض حول تسوية سياسية للصراع يسهم في كبح تمدد نفوذهما، ويحدث تصدعات في تلك الترتيبات المنسوجة بينهما ويحيد مفاعيلها...

* نقطة أخرى، إن تعزيز روسيا لأصولها العسكرية في ليبيا (في حال استمرار التصعيد الميداني)، قد يدفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى تعزيز التواجد العسكري التركي لموازنة النفوذ الروسي، وهذا يصطدم مع مصالح القاهرة الكبرى.

وفي الوقت ذاته، قد يعيد تشكيل المواقف الأوروبية تجاه أطراف الصراع في ليبيا من جديد (خاصة الموقف الفرنسي)، كون الدول الأوروبية تعتبر التواجد العسكري الروسي بمثابة مصدر خطر كبير على أمنها. وفي هذا السياق ثمة تقديرات بأن تلجأ المجموعة الأوروبية إلى فرض عقوبات على حفتر الذي تعتمد عليه موسكو كمضيف وشريك.

وفي السياق ذاته، ثمة تحديات كبيرة بشأن حسابات القاهرة وتحركاتها لحماية أمنها القومي والحفاظ على مقدرات الشعب الليبي الشقيق. فمن ناحية، لا تستطيع القاهرة أن تعزز من تفاهماتها مع بعض وجهات نظر أطراف أوروبية لا تنظر للتواجد التركي في داخل ليبيا باعتباره مصدر خطر كبير، يساوي نفس مستوى الخطر الذي تستشعره تلك الأطراف إزاء التواجد الروسي... وحديث هذه الأطراف عن أن كبح جماح روسيا في ليبيا سوف يؤدي بالمقابل إلى تقليل اعتماد حكومة الوفاق على تركيا (ومن ثم يبدد بعض مخاوف القاهرة)، تبدو أقوالاً مرسلة... ولا تقدم أي ضمانات معتبرة، خاصة وأن تجربة العملية البحرية الأوروبية "إيريني" لم تكن فاعلة في وقف تدفقات السلاح التركي إلى ليبيا .!

ومن ناحية أخرى، لا تستطيع القاهرة (رغم انسجام رؤيتها مع موسكو بشأن الإرهاب) من تحييد مفاعيل التفاهمات الروسية التركية الواسعة والمتشعبة، والتي تبدأ من حسابات روسيا في منطقة البحر الأسود، مرورًا بالرغبة في تصفية بؤرة إدلب، ثم الرغبة في تعميق التناقضات داخل الناتو من خلال الإبقاء على تفاهمات مع أنقرة، وانتهاء برغبة موسكو أيضًا في تحدي الناتو من خلال التواجد في منطقة الجنوب الأوروبي على الشاطئ الآخر للبحر المتوسط .

أسئلة كثيرة تثيرها تلك اللحظة الحرجة والمفصلية من الصراع في ليبيا وعليها، تبرز كلها عظم التحديات ودقة الحسابات.

إعلان