إعلان

مجدي الجلاد يكتب: حين بكى صالح كامل..!

مجدي الجلاد

مجدي الجلاد يكتب: حين بكى صالح كامل..!

مجدي الجلاد
02:00 م الأربعاء 20 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كانت مصر تهتز على وقع زلزال يناير 2011.. وكان الرئيس مبارك قد تخلى للتو عن السلطة.. وفي أثناء أحداث شارع محمد محمود وماسبيرو، تلقيت مكالمة هاتفية من الشيخ صالح كامل.. قلت: آلو.. فجاء صوته مكتوماً: إنت فين يا مچدي؟!.. أجبته ساخراً من الحال: هكون فين يا شيخ صالح؟!.. في الجريدة.. فقال: تعالى البيت عندي حالاً.. أنا منتظرك..!

ربطتني علاقة إنسانية دافئة مع هذا الرجل.. كنت دائماً أراه نموذجاً لقصة كفاح ونجاح نادرة.. والأهم أنه كان عروبياً مُخلصاً لقضايا وطنه الكبير.. لذا كنت أعتبره أباً حنوناً وحكيماً.. أجلس إليه مُنصتاً، علّني أستفيد من تجربة حياته العميقة.. وحين تضيق بي الدنيا، أشكو له ملمّات وتحديات ومعارك الحياة.. فيضحك مُقهقهاً ويقول: هي من إمتى يا ابني كانت سهلة؟!.. كلنا مكتوب علينا الكفاح والشقاء من الميلاد إلى الممات.. كمّل مشوارك بإرادة وعزيمة.. صدقني لو كانت الدنيا سهلة ومريحة ما أحسسنا بطعمها..!

بكيت صالح كامل، لأنني ربما أكون من القلائل الذين رأوا دموعه تتدحرج على ثوبه الأبيض الناصع في ذاك اليوم..!

في بيته على كورنيش النيل.. جلست أمامه.. لم يمهلني فرصة لأسأله عن الأمر.. إذ بادرني قائلاً: «مصر هتروح على فين يا مچدي؟!.. قلبي واجعني على بلدي الثاني.. معقولة اللي بيعمله المصريين ده.. فيه حد يولع في بلده.. مصر كبيرة أووووي، بس مش كتير اللي عارفين قيمتها»..!

يومها.. بكى الرجل، وتحشرج صوته، وهو يتحدث عن مصر.. كان خائفاً عليها، وكأنه يتحدث عن أمه أو ابنته.. ورغم الخوف الذي كان يتملكنا جميعاً آنذاك.. وجدت نفسي أحاول تهدئته، ولكنه ظل يبكي، وهو يسرد مناقب مصر، وأسرار عظمتها.. ثم استطرد قائلاً «عارف المشكلة إيه في اللي بيحصل؟! المشكلة الكبيرة اللي هتظهر نتائجها بعد كده إن المصريين ثاروا وأزاحوا مبارك والنظام الحاكم.. طيب ماشي.. بس مافيش حد بيجاوب على السؤال الأهم: وبعدين؟!!..وماذا بعد؟!.. نجحوا في المظاهرات، ولكنهم فشلوا في الخطوة الأهم: البناء.. وكأنهم فوجئوا بسقوط «سليمان» عن عصاه.. فنظروا بدهشة، وسألوا بعضهم البعض «هييه وبعدين؟!.. هو إحنا المفروض نعمل إيه بأه؟!» وهذه مصيبة كل الثورات..!

كنت مُخطئاً، حين ناقشته على مدى ساعتين كاملتين، حول السيناريوهات المحتملة، بعد رحيل مبارك.. إذ كنت أعتقد أو أحلم وقتها بأن القوى السياسية المختلفة، سوف توحّد جهودها، وتنسى مصالحها الضيقة، لإعادة بناء الدولة.. ولكنه نظر إلي بدهشة واستنكار، وقال «أنت شاب متفائل.. ولكن تفاؤلك لا علاقة له بالواقع.. الواقع يقول إن التناحر سيظل سائداً إلى حين، وستدب الخلافات والصراعات بين القوى السياسية، وستتكالب على البلد التنظيمات والجماعات المتطرفة.. وستعاني مصر كثيراً من الفوضى والعنف.. والمشكلة الأكبر أن اقتصادها لن يتحمل طويلاً.. لكنني أدعو الله عز وجل أن ينقذ مصر من السوء.. ولن يطمئن قلبي، حتى تمر هذه الأزمة على خير»..!

تكلم الرجل الصالح كثيراً.. وفاجأني بقدرة هائلة على التحليل السياسي، واستشراف المستقبل.. إذ تحقق ما قاله بالضبط، خلال العامين التاليين، وكأنه كان يقرأ من كتاب مفتوح، أو يصف لي مشهداً يراه بوضوح..!

لن أنسى دموع صالح كامل خوفاً على مصر.. ولن أنسى حبه لها، حين فاض من عينيه، وسط الدموع الحارقة.. لن أنساك يا شيخ صالح.. يا من أحببت بلدي، مثلما أحببت أنا وطنك.. ولن أرثيك بالكلمات، فدموعي على فراقك تكفي.. وتفيض..!

إعلان