إعلان

شذرات وأغنيات..

د.هشام عطية عبدالمقصود

شذرات وأغنيات..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 16 أكتوبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

1/

ما زال محمد عبدالوهاب في أغنياته يمارس حضوره مهيمنًا في وجدانك، تنطلق معه يمامات الطمأنينة وتنفتح فضاءات لا محدودة غير مكتملة المعالم لكنها حتمًا تحتشد ببهجة ما عرفت، قادرة على تجديد توقك وحلمك، وحيث يأخذك معه بعيدًا كأنك تطل على الأرض من فوق كوكب بعيد بينما تتناهى إليك مترقرقة همساته الحائرة: "يا منية النفس ما نفسي بناجية".

2/

عندما فجأة وبعد ما يشبه النسيان يباغتك صوت أم كلثوم تغني: "أقبل الليل وناداني حنيني"، فتسأل: هل تصلح لتكون هذه رسالتي إلى العالم!.

3/

مطلاً.. من هناك، في الساحة الممتدة عند منتهى حقول الوجد، تتابع طيف اشتهاءات بطول عمرك، متدثرًا بزاد العارفين والزاهدين والعابرين على حافة الماء، ومتحديًا ما تذكره الكتب القديمة وما روته أشعار البوادي وما اقتفاه قصاصو الأثر، بينما صوت شادية يمضي هادئًا مشكلاً خلفية المشهد: "خدني معاك عند الحبايب.. خدني معاك عند اللي غايب".

4/

مساءات تأتي في موعدها، تتابع خطوها وهي تصنع حضورها المكتمل، ترقبها عبر الحوائط الممتدة في خطواتها المتثاقلة، تمنحك براحًا متعمدًا للتذكارات، عنقودًا من التصاوير والوجوه تنساب؛ لتحكي في تؤدة تاريخ ما عرفت، وقد تتوقف قليلاً تتثبت من بعض ملامح الوجوه، ثم.. تمضي، وحيث البحر يباغتك بدفء جم، تطل على شرفته ضياءات القمر فتظن أنه يناجيك وحدك، براح ممتد، وفضاء لا يشوبه نتوءات، وحيث يسري مع الليل صوت عبدالوهاب يؤرخ لقصة البشر وحكايات الأزل: "والموج بيحكي حكاية للشط ما لها نهاية".

5/

كل موضع في الأرض، وكل تنسمات في الهواء، هي سرد بالذات أو من خارجها لخطوات بشر مرت عابرة على ذات الأمكنة، كأن الأرض والسماء طبقات تعلو أو تمحو بعضها لملايين الأفراد على مدرج جبل الزمان، الذي تبدو قمته غائبة في عمق السحابات، تاريخ بدأ منذ بلايين السنوات ويراه البعض أنه مرهون بتاريخ مولده، بعض من عادة البشر في مراودة رحمة النسيان، ليصك المؤلفون والشعراء والعجائز مصطلحًا عبقريًا آخاذًا "النصيب" والذي تغنيه شادية ناقلة مدارات المعني حيث تصيب: "وبيقولوا نصيب.. وغنوا في المواويل على المكتوب يا ليل.. وعلى العين اللي تصيب.. نصيب".

6/

جملة تطلقها فتاة في فيلم كلاسيكي قديم، تقول فيه لأمها بينما تستعد لحفل زواجها وفي توسل رقيق: "سي عبدالمطلب والنبي ياما".. وبعده في مشهد لاحق يظهر محمد عبدالمطلب بجلباب بلدي ممسكًا بعصا تشبه الناي الطويل وخلفه فرقة صغيرة بينما يغني مبتهجًا، صوت عميق مريح لا يرهقك أبدًا -شدوًا وطربًا وأداء مسترخيًا ومواويل ربما تخاطب حيرة البشر-، فتصيغ معادلات الحياة في حدين بسيطين كحكمة مضفرة، شجن نبيل يخلو من التأوهات والعذابات، به انسياب النهر، وصوت عصافير لا يُسكتها هدير حوافر البشر، يغني عبدالمطلب في موال الصاحب: "غدار يا زمن.. لا ليك خل ولا صاحب.. أنا صاحبت صاحب.. أتاري صاحبي مصاحب.. وصاحب اتنين يا زمن ما لوش صاحب"، وحيث يكون الموال هنا مفتتحًا وتمهيدًا؛ لتنطلق بعده أغنيته المبهجة: "حبيتك وبحبك وهحبك على طول.. مش خاين ونسيتك زي أنت ما بتقول".

7/

لعلها متفردة بحق تلك الأغنيات القصيرة التي لا يتجاوز أطولها خمسين ثانية في مسلسل الأيام الذي يحكي سيرة طه حسين، هي درة غناء على الحجار، وليس كما معتاد الكلمات جاء نظم سيد حجاب، شجرة ثمارها ثقيلة لكنها أحيانًا مريرة المعنى: "وأمد إيدي لقمر الليل ولا أطولشى"، تشكو ولكنها لا تبارح مراودة الرجاء فينبثق الأمل صاعدًا كنبع التمني: "لكن ما دام في القلب حب وشوق.. لا بد يوم يصفي الزمان ويروق.. ودي حكمة الأيام".

مختتم:

وقف شيطانان يتسامران:

قال شيطان لزميله: هل ترى ذلك الرجل الطيب، ذلك المتواضع الذي يسير هناك أنا ذاهب لكي أهزم روحه؟!.

قال الشيطان الثاني: لن يعيرك اهتمامًا، إنه مشغول بأفكاره الطيبة.

لكن الشيطان أصر وذهب إليه متنكرًا في زي ملاك؛ ليقول للرجل الطيب: أنا هنا لمساعدتك تعالى.

قال الرجل: أنت مخطئ يا سيدي، فأنا لم أفعل في حياتي ما يستحق أن يهتم بي ملاك مثلك.. وسار في طريقه.3

(الروائي باولو كويليو- "مكتوب").

إعلان