إعلان

تجديد الخطاب الديني وسجال فلسفة التاريخ

طارق أبو العينين

تجديد الخطاب الديني وسجال فلسفة التاريخ

طارق أبو العينين
09:00 م السبت 17 أغسطس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مع تنامي موجات الإرهاب الأصولي باتت حاجتنا نحن العرب والمسلمين إلى تجديد الخطاب الديني مُلحة إلا أن الاعتقاد بأن عملية تجديد الخطاب الديني يمكن أن تتم بمعزل عن تجديد ومراجعة خطابنا الثقافي والحضاري بُغية بناء مجتمع تعددي مفتوح كفيل بأن ينسف تلك العملية من أساسها؛ لأنه ببساطة يجردها من كل مضامينها الموضوعية، وأعتقد من وجهة نظري المتواضعة أن مفهوم فلسفة التاريخ هو أوثق المفاهيم الفكرية ارتباطاً بعملية تجديد الخطاب الديني؛ لأنه أوثقها ارتباطاً بنشأة الأصوليات الدينية المتطرفة..

فاعتقاد الفلاسفة منذ القديس أوغسطينوس مروراً بالفيلسوف الإيطالي فيكو وصولاً إلى الفيلسوف الألماني هيجل، بأن التاريخ البشري ليس مجرد مجموعة من الأحداث التي يمكن أن تغير وتصوغ مصائر الناس والأمم، بل إن هناك منطقًا ثابتًا أو معادلة فلسفية محددة هي التي تُسير تلك الأحداث وتوجهها قبل أن تحدث كان ولا يزال اعتقاداً وثيق الصلة بالجذور المعرفية لظاهرة الإرهاب؛ لأن هذا النمط من التفلسف قد أنتج ما أطلق عليه الفيلسوف البريطاني كارل بوبر التاريخانية الإيمانية التي عرفها في كتابة "المجتمع المفتوح وأعداؤه" بأنها اعتقاد جماعة من المؤمنين انطلاقاً من فرضية ثبات قوانين التاريخ (التاريخانية) بامتلاك الحقيقة المطلقة، بل واحتكار نصر الرب وتأييده الحتميين في مواجهة خصومها، ولعل مفهوم الفرقة الناجية عند التنظيمات الإسلامية الراديكالية المتطرفة ومن قبلة مفهوم شعب الله المختار عند اليهود، هما أكثر الامثلة وضوحاً على مدى العنف والتطرف النابع من هذا النمط الفلسفي ...

ورداً على هذا المنطق في فلسفة التاريخ تبنى التيار التنويري العربي خطاباً لا يقل التباساً عن تلك التاريخانية الإيمانية، ولعل مشروع المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي الذي يروم من خلاله تجديد الخطاب الثقافي والحضاري العربي عبر إحداث قطيعة معرفية شاملة مع التراث العربي والإسلامي باعتبار أن هذا التراث معوقاً أساسياً يحول دون نهضة العرب والمسلمين وتقدمهم انتقالاً إلي نمط الحداثة هو أبرز دليل على هذا الالتباس، فقد أسس العروي رؤيته تلك انطلاقاً من تصور يفترض أنه مناقض لتلك التاريخانية وهو تصور يعتمد على فهم واستيعاب معارف الماضي في سياقها التاريخي، ثم القيام بقطيعة معرفية معها...

فالإشكالية الكبرى في منهج العروي بوصفه خطاباً مؤسساً لعلاقة الدين بظاهرة الحداثة تكمن في مزجه ما لا يمكن أن يمتزج فقد انطلق من النمط التقليدي لفلسفة التاريخ القائم على ثبوت قوانين التطور التاريخي ووحدة اتجاهه (التاريخانية التقليدية) ثم مزجه بنمط مناقض تماماً وهو النمط ما بعد الحداثي للتاريخانية (التاريخانية الجديدة) الذى يتيح إمكانية إحداث قطيعة معرفية مع الماضي بعد استلهام أحداثه، وكلا النمطين يناقض مشروع الحداثة التنويري البرجوازي الأوروبي الذي يعد استنساخه عربياً بمثابة الهدف النهائي لمشروع العروي وهو ما يضعنا أمام العديد من الإشكاليات الكبرى والمعقدة...

أولها: أن الاعتراف بثبوت قوانين التاريخ ووحدة اتجاهه بمثابة شرعنه لمنطق الجماعات الدينية المتطرفة التي استلهمت نفس القالب الفلسفي منتجة مقولة الفرقة الناجية...

وثانيها: هو التناقض بين الخطابين الحداثي وما بعد الحداثي في تكييف مفهوم الماضوية ومدى علاقته بالظاهرة الدينية فإذا كان هدم الماضوية في خطاب التنوير البرجوازي الحداثي يرتبط بشكل أساسي بتهميش وهدم الميتافيزيقا (المطلقات والغيبيات الدينية) فإن هدم الماضوية في خطاب ما بعد الحداثة قد بُنى على توظيف الفكر الديني لهدم هذا التصور التنويري نفسه انطلاقاً من أن السلطة السياسية في نظام الحداثة والتنوير قد حلت كبديل للإله في المنظومة الدينية وفق ما قال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذى استلهم مفهوم الحلولية (إمكانية حلول الإله في بعض مخلوقاته) في الخطاب الديني الصوفي لتفكيك هذا التصور الحداثي للسلطة السياسية ...

وثالثها: إن مفهوم العروي يتجاهل التناقض بين أطروحات الحداثة وما بعد الحداثة فيما يتعلق باعتماد الأولي على الأيديولوجيات السياسية الأممية التي تهمش دور الدولة القومية باعتبارها تخاطب الإنسان كإنسان في كل أرجاء الكون مبشرة بالإنسان الكوني كنموذج عابر للقومية على صعيد ما يعتنق من قيم وأفكار وهو ما يتناقض مع التصور ما بعد الحداثي الذى يعتبر تلك الأيديولوجيات أوهاماً غير علمية هدفها السيطرة على الجماهير وتضليلها ...

ومن ثم يمكن القول في النهاية إن هناك مساحة من التداخل والاشتباك بين عدة تصورات لفلسفة التاريخ سواء على صعيد معسكر الإسلام السياسي المتطرف أو على صعيد الأطروحات العلمانية التنويرية التي تهدف إلى تفكيك خطابة قد نجمت بالأساس عن استناد تلك التصورات إلى مرجعية فلسفية أو نقطة صلبة يتم شرعنتها، إما انطلاقاً من الخطاب الفكري التنويري التقدمي أو من الدور المتوهم للتنظيمات الإسلامية الراديكالية في الدفاع عن الهوية الدينية والوطنية في مواجهة العلمنة والتغريب ومن ثم فإن تجديد الخطاب الديني في عالمنا العربي والإسلامي قد تحول بذلك إلى مجرد سجال في فلسفة التاريخ يبتعد عن النقطة الجوهرية في فلسفة أي عملية تجديد إلا وهى رفض كافة القوالب المغلقة في خطابنا الديني والثقافي لمصلحة النسبية في المواقف والرؤى، وكذلك التعاطي مع عملية تجديد هذا الخطاب بوصفها كلا لا يتجزأ لا انفصال فيه بين واعظ ومثقف...

إعلان