إعلان

بداية الانحطاط في المجتمع المصري

د. أحمد عمر

بداية الانحطاط في المجتمع المصري

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 30 يونيو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إن مجتمعنا يموج بعشرات الظواهر الاجتماعية والسياسية والفكرية. وما أحوجنا لكل طاقة نور من كل عقل يفكر؛ لنرى أين نحن، وإلى أين نسير؟

هل تصدق عزيزي القارئ، أن تلك الافتتاحية العلمية الراقية في صياغتها اللغوية، والعميقة في دلالتها وأهميتها، والتي تخاطب العقول، وتثير فيها الاهتمام بالشأن العام، وتبرز كذلك دور المفكرين والعلماء في فهمه وتفسير ظواهره وحل مشكلاته- لم ترد في افتتاحية أحد البحوث أو الدراسات الأكاديمية، ولكنها كانت افتتاحية إحدى حلقات برنامج إذاعي شهير في الإذاعة المصرية، بدأ منذ ثمانينيات القرن الماضي، واستمر لأكثر من عقدين، وهو "برنامج شاهد على العصر" الذي كان يقدمه الإذاعي القدير الأستاذ عمر بطيشة.

وهذا البرنامج كنا نستمع إليه أسبوعيًا، مساء كل يوم أحدِ، ونحن في مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية، وقد ساهم بقدر كبير في إثراء لغتنا وأفكارنا وثقافتنا، وربطنا بهموم ومشكلات مجتمعنا؛ لأن الأستاذ عمر بطيشة كان يستضيف في كل حلقة أحد الشخصيات المصرية الكبيرة في القامة والقيمة، ليُحدث المستمعين عن سيرته وحياته وشهادته على عصره بإيجابياته وسلبياته، وعن أحلامه وطموحاته لوطنه، وبلغة عربية في منتهى الرصانة والرقي.

وفي ذلك الزمان، كنت أسجل هذه الحلقات على أشرطة الكاسيت التقليدية لأعيد الاستماع إليها مرارًا وتكرارًا، لكي أستوعب تمامًا ما قيل فيها.

ومع ظهور الإنترنت، بدأت بعض حلقات هذا البرنامج تجد طريقها إلى موقع يوتيوب، فأعدت تحميلها والاحتفاظ بها على وسائط تقنية أكثر حداثة، لأعود للاستماع إليها من وقت لآخر، لأستعيد حضور "زمان الكبار" وأثري لغتي وأفكاري وثقافتي من جديد.

ومؤخرًا، استمعت للحلقة التي استضاف فيها الأستاذ عمر بطيشة، الراحل الدكتور زكي نجيب محمود، أستاذ الفلسفة الشهير، وهي الحلقة التي تم تسجيلها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.

وفي هذه الحلقة تحدث الدكتور زكي نجيب محمود عن أهم الظواهر التي طرأت على المجتمع المصري، وجسدت بداية الانحطاط فيه، وهي ظاهرة انعدام معايير حقيقية للصعود المهني والمالي والطبقي، وسيادة قيم المحسوبية والفهلوة والشطارة، والصعود على أكتاف الآخرين. وكيف أدت تلك السلوكيات إلى انعدام الإحساس بالآخر، وإلى أن يتصرف الإنسان المصري في حياته، كما لو كان وحده في مصر، وليس هناك غيره، ليصبح لسان حاله: أنا ومن بعدي الطوفان.

وذكر أيضاً أن المصري، عبر تاريخه الاجتماعي والحضاري، كان من طبيعته أن يضع الآخرين عندما يتصرف في اعتباره؛ يعني كان يصعب جدًا على المصري أن يدوس على طرف الآخر، سواء أكان هذا الآخر الجار أو الزميل في العمل أو المشارك في السوق، وغير ذلك.

وكان السائد والمألوف، بالطبع، حينما يتخرج أحد في المدرسة أو الجامعة أن يبدأ حياته العملية من الصفر أو من درجة دنيا على كل حال لأنه صغير، فيعمل ليصعد درجة درجة، حتى يصبح موظفًا كبيرًا أو تاجرًا غنيًا، أو عالمًا وصل إلى الكثير من المعرفة، ولا يمكن أن يكون هذا الذي حصل له من تقدم وتميز ابن ساعة أو ابن يوم.

ثم جاءت ظروف اجتماعية وسياسية، مكّنت هذا الموظف أو التاجر الصغير أو المثقف، من الوثوب من أدنى السلم إلى أعلاه، طائرا فوق الدرجات الوسطى بالهليكوبتر.

وهذا الموظف أو التاجر أو المثقف الهليكوبتر، وصل بمهارة أخرى غير أنه يعمل، وصل بمهارة أخرى غير أن يكابد عثرات وعقبات الطريق التي اختار أن يصعد به، بل هو يطير فوق العقبات بمساعدة آخرين من الأقوياء وأصحاب النفوذ.

وهذا لا يمكن أن يحدث بالطبع إلا على حساب آخرين جاهدوا، وكابدوا دون أن يصلوا إلى شيء، وهم ينظرون بحسرة وخيبة أمل لمن وصل دون أن يعمل شيئا.

وكان هذا التطور النوعي المرضي من وجهة نظر الدكتور زكي نجيب محمود بداية الانحطاط في المجتمع المصري، وبداية شيوع اللامبالاة، وعدم إتقان العمل، وعدم الإيمان بجدواه، وبداية انتشار التسيب والرشوة، واغتصاب أموال الحكومة، وغيرها من أمراض اجتماعية.

رحم الله الدكتور زكي نجيب محمود؛ فقد لخص في حوار إذاعي، وفي كلمات قليلة، أصل الداء في مجتمعنا، وبداية انحطاطه، وأعطى بشكل ضمني جوهر الدواء، وهو العدالة وتكافؤ الفرص، وربط الجزاء ثوابًا وعقابًا بالعمل وحده.

إعلان