إعلان

"رمضان جانا".. ألفة الناس والشوارع والحكايات

د.هشام عطية عبدالمقصود

"رمضان جانا".. ألفة الناس والشوارع والحكايات

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 03 مايو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في رمضان تعود الدنيا بنا حيث هناك في الزمان، تعود وهي تحمل شيئا من أثر الألفة، ألفة الموجودات والعادات ووجوه الناس التي عرفنا، ورائحة عبرت بنا فاستبقينا أريجها داخلنا آخاذا، وحيث الطفولة تصنع في وداعة ويسر تراكمات الذاكرة الرمضانية، فتصير الحياة "أنساً وطيبا".

رمضان في الذاكرة يحبه الصغار جمًا وينتظرونه شهورًا عددا، ارتباطا بما حملته أيامه ولياليه وعرفوه، مظاهر وعادات وسير لا تنفك تصنع تلك الحياة الرمضانية، فاصل زمني ممتد، له خصوصيته داخل مسار الأيام ودورانها، حالة من الزمن الخاص، يكون توقيتها أو طرفاها أذاني المغرب والفجر، ومعهما وحولهما يتشكل شكل وطعم ولون الأيام الرمضانية.

فهنا في الزمان تنزاح تماما فروقات توقيت التشتت في تناول الطعام وطقسه الذي أوشك أن يكون فرديًا وانعزاليا، فيتحلق أفراد الأسر حول وجبتي الإفطار والسحور، وليجتمع الشمل مكتملا حول ما تجود به المائدة وحيث "رمضان دايما رزقه واسع" والكل "عنده مجتمعين".

أشياء كثيرة عرفها أولئك الأطفال وهي تحدث في انتظار أوان الإفطار، خاصة وأن رمضان يأتي دوما في إجازة الصيف، وفي الانتظار تتشكل تفاصيل خاصة منها مواجهة حرارة الجو بوضع الرأس تحت صنبور المياه، وبعد ذلك فورًا "من أين تأتى القوة!"، تبدأ مباريات كرة القدم في الشارع عفية وطوال ما بعد العصر وحتى قبل مدفع المغرب بنصف الساعة، أما لماذا نصف الساعة فتلك هي الفترة الكافية لتحضير المدفع الرمضاني الشخصي، من مسحوق رؤوس عيدان الكبريت مضغوطة داخل ثقب في أسطوانة حديدية طولها عدة سنتيمترات، وبها مسمار يغلق فوهتها ومرتبطا بها عبر حبل قصير، ولينتشر من كانوا قبل نصف الساعة فقط لاعبي كرة قدم أشداء في شكل انسيابي محبب على أعمدة البيوت وعلى الحوائط الخراسانية المتاحة، في انتظار الجملة العبقرية الآخاذة التي تنطلق من راديو عموم مصر ومن الموجة التي يضبط كل المصريين آذانهم عليها ترقبا ليسمعوها معا "مدفع الإفطااااار اضرب"، فتتوالى طرقعات المدافع الصغيرة مصاحبة لصوت المدفع الذى ينقله بث الراديو، ولينطلق بعدها موكب الصغار كل نحو بيته جريا وقفزا ووثبا، مباشرة نحو دوارق المياه المثلجة غير سامعين لتوسلات الأم وجملتها العطوفة اليومية "بالراحة.. علشان تعرف تاكل".

وبينما يتهيأ الرجال والكبار للذهاب إلى المسجد لصلاة العشاء والتراويح يكون الأطفال قد صنعوا مخططات الترفيه المرنة، بالذهاب نحو الميادين القريبة الواسعة لتناول بلح الشام طازجا سخيالعسل، ومتابعة مواعيد مباريات مختلف الدورات الرمضانية التي يتم فتح ملاعب المدارس القريبة والساحات الواسعة لها، وحيث يبرع لاعبو الشوارع المجهولون وبالطبع المشهورون لديهم، فهذا يطلقون عليه "أبورجل زمبلك" يتنقلون مع مبارياته عبر مختلف الدورات، ثم السؤال عن متى سيلعب الحريف "بليه" وفي أي دورة رمضانية، كان جمهور المشجعين يلتف حول الخطوط المحددة للملعب تمامًا فليس هناك مدرجات أو ما شابه، وحيث كان عصر الكرة الشراب كان قد أوشك أن تكتمل مغادرته، بفعل انتشار الكرة البلاستيكية التي تشبه كثيرًا كرة الملاعب الحقيقية وتقترب منها – تقليدًا - في مواصفاتها، وفي هذه الدورات يتم توفير نفقات من رسوم اشتراك الفرق لبناء عوارض خشبية ووضع شباك بديلا عن حجرين يمثلان عارضتين كما يفعلون لعبا طوال أيام السنة، وكم كان ذلك جذابا آخاذًا.

سيكون ما تيسر من قطائف وقطع كنافة متاحًا على "ترابيزة" الصالة في البيوت يستعينون بها في الانقطاعات التي يفصلون بها جولات رحلة المساء وحتى السحور، يتقاسمها معهم كل من يقترب بيته من خطوهم فيصعد ليأتي بـ"المدد"، طاقة محفزة على تكملة بهجة الليالي الرمضانية، وحيث يصاحبهم عطوفا طيبا صوت عبدالمطلب ينطلق من الراديوهات في المحلات والدكاكين "من امتى وإحنا بنحسبلك ونوضبلك ونرتبلك.. رمضان جانا.. أهلا رمضان".

هامش:

"سوق الشماعين: هذا السوق من الجامع الأقمر إلى سوق الدجاجين كان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يشترى من الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منهن عشرة أرطال فما دونها، ومن المزهرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة، ومن الشمع الذي يحمل على العجل ويبلغ وزن الواحدة منها القنطار وما فوقه، كل ذلك برسم ركوب الصبيان لصلاة التراويح، فيمر في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية وصفه". تقى الدين أحمد بن على المقريزى – المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (الجزء الثالث).

إعلان