إعلان

أين أنت يا زعيم؟!

لميس الحديدي

أين أنت يا زعيم؟!

لميس الحديدي
12:03 م الإثنين 15 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

والزعيم الذي أقصده هنا- كيلا يساءَ فهمي- هو الزعيم عادل إمام، أو هكذا يطلق عليه محبوه وهم بالملايين.. تتسارع الأيام، ويقترب شهر رمضان الكريم، ولن يُطل علينا كعادته- للأسف-الزعيم عبر أي من شاشاتنا المصرية أو العربية ليضيف إلينا بهجة وسعادة كل ليلة فهو صاحب السعادة ولا صاحب لها غيره.

لماذا، إذن، وما هي الأسباب؟

السؤال يفتح بابًا أكبر من مجرد غياب عادل إمام- رغم أهميته- فهو يطرح تساؤلات عن: حال الدراما المصرية، ودور الدولة والقطاع الخاص، واقتصاديات صناعة كانت يومًا ما تنافس صناعة القطن كمصدر رئيسي للدخل القومي المصري. والأهم من الاقتصاد التأثير؛ فمصر دولة مهمة ليس بالموقع الجغرافي والتاريخ فحسب، ولكن بتأثيرها السياسي والفني والثقافي.

الأسباب المباشرة لغياب عادل إمام والكبار مثل يسرا، وليلى علوي، والفخراني، وهند صبري، ومنة شلبي، ونيللى كريم، وعمرو يوسف وغيرهم من الأجيال المختلفة- ومعهم مئات من العاملين في الصناعة- تفاصيلها يملكها أصحابها، وهم قادرون علي الكشف عنها.

لكن القضية الكبرى نملكها جميعًا كمشاهدين ومهتمين بالحال الثقافية للبلد الذي نعيش فيه، والوطن الذي عرفناه يشع فنا وثقافة.

ولا يجب أبدا أن نتقاعس عن مناقشتها، خاصة عندما نقرأ تصريحات لفنان كبير، مثل محمد صبحي في "مصراوي" و"المصري اليوم" حول اعتذاره عن عدم رئاسة لجنه الدراما بالمجلس الأعلى للإعلام بسبب رفضه "احتكار الفن"!

تلك التصريحات يجب ألا تمر مرور الكرام، خاصة حين تصدر من فنان بحجم صبحي من أكبر مؤيدي دور الدولة في الإعلام، لكنه- وعلى حد قوله "مش علشان تمسك الحرامي تموّت الحارة كلها"، وهذا بالضبط ما حدث!

كانت الدولة مؤخرًا بعيدة عن مجال الإنتاج وبالذات التليفزيوني، بعد سنوات قاد فيها قطاع الإنتاج التابع للتليفزيون المصري قاطرة الإنتاج الدرامي في مصر.

لكن المشهد لم يعد نفسه؛ فقد كان التليفزيون فقط ماسبيرو، ومع انطلاق حركة القطاع الخاص وظهور الفضائيات المصرية والعربية انطلق الإنتاج الخاص وتراجع إنتاج الدولة، وساد المشهدَ- في بعض أحيانه وليس جميعها- ارتفاعٌ في التكلفة ومضامينُ ليست دائمًا هي الأفضل.

ظهرت النداءات من الفنانين أنفسهم بدورٍ للدولة في ضبط الإيقاع، خاصة مع خسائر القنوات والمنافسة الخارجية الصعبة، كانت المطالب في إطار:

- عودة الدولة للإنتاج.

- ودور للبنوك في دعم صناعة السينما والدراما.

- ودعم الدولة للمحطات المصرية محدودة الإمكانات في منافساتها الشرسة مع محطات ذات ملاءة مالية لا قبل لها بها.

لكن ما حدث بالضبط هو ما قاله الأستاذ صبحي" لكي نضبط الحرامي قتلنا الحارة"، فقامت الدولة بشراء كل أدوات إنتاج الصناعة في محاوله لضبط اقتصادياتها ومضمونها.

فاشترت منصات العرض (المحطات)، وبالتالي قررت أن تكون هي المنتج الرئيسي كي تخفض التكلفة والأسعار التي تشتري بها، وتضبط المحتوى أيضا، وبدلا من أن نترك السوق تصحح نفسها بآلياتها (وكان ذلك حتميا) أو أن نصدر القواعد الضابطة لحركتها، تدخلت الدولة بنفس طريقه التعامل مع السلع الاستهلاكية (السكر والزيت) وليس مع فن له مقاييسه وقواعده.

هكذا خرج القطاع الخاص من السوق، وخرج معه آلاف العاملين في الصناعة، ومئات الفنانين من الكبار والصغار معًا. خرج القطاع الخاص من صناعة أساسها في العالم أجمع الحرية والإبداع، ولا يمكن أن تقوم أبدا على قواعد بيروقراطية حكومية، فتلك تقتلها. فأصبحنا في حالة لا يمكن تشبيهها إلا بتجريف للفن المصري، وتعقيم لعقل المشاهد، وقد نشهد بعدها موجة من هروب الفن المصري للإنتاج في الخارج، إذا ما ضيق عليه هنا بأكثر من ذلك.

ويبدو أن البعض تصور في عودة دور الدولة للإنتاج شبيها بمرحلة الستينيات التي دخلت فيها الدولة بقوة، عبر المؤسسة العامة للسينما التي أسست عام ١٩٥٨؛ فقد أدرك مجلس قيادة الثورة حينها خطورة دور الفن وتأثيره، وإرادة معبر عن تلك الحقبة وأهدافها الثورية، وتفاعل معه وقتها مجموعة فريدة من الكتاب والمخرجين والفنانين كانوا على قناعة وإيمان بمبادئ يوليو، أنتجت المؤسسة على مر تاريخها وحتي عام ١٩٧١ حوالي ١٤٥ فيلمًا كان منها مجموعة من أهم ما أنتج في تاريخ السينما: الناصر صلاح الدين، القاهرة ٣٠، القضية ٦٨، الحرام، ثلاثية نجيب محفوظ وغيرها. لكن دخول الدولة في الإنتاج حينها لم يوقف القطاع الخاص، فرغم تأميم الاستديوهات، لكن الأرقام تقول إن القطاع الخاص تفوق على العام في الإنتاج عن تلك الفترة؛ حيث قدم ٢٨١ فيلمًا في مقابل ١٤٥ للقطاع العام (تحقيق المصري اليوم أغسطس ٢٠٠٩).

ولأن الهدف من مشاركة الدولة في الإنتاج كان التأثير، فقد كان التدخل إنتاجيا ورقابيا أيضا، ولم تُكتب النجاة لأفلام عديدة من مقص الرقيب حينها، لكن مثابرة المثقفين المصريين كانت تصعد الأمور إلى الرئيس عبدالناصر نفسه الذي أنقذ أفلاما عديدة مثل رائعة كمال الشيخ ونجيب محفوظ "ميرامار"، والنموذج الأشهر لحسين كمال "شيء من الخوف"، ويتردد أن عبدالناصر حين أجاز الفيلم قال: "لو أنا باعمل زي عتريس أستاهل اللي يجرالي".

انتهت تجربة مؤسسة السينما عام ٧١ بخسائر بلغت الملايين بعد النكسة، وتوقف الإنتاج واستفحلت بيروقراطية القطاع العام. وهكذا انتهت تجربة الدولة مع الإنتاج، إلا إنتاجها التليفزيوني في الثمانينيّات والتسعينيات عبر قطاع الإنتاج التابع للتليفزيون.

يقرأ كثيرون عن تجربة الستينيات، ويظنون أنه يمكن إعادتها، رغم تغير المعطيات: السماوات المفتوحة والمنافسة مع المحطات العربية، بل منافسة الديجيتال أيضا.

يتذكرون الأفلام العظيمة التي أنتجتها المؤسسة، وينسون فشل التجرية اقتصاديا وخسائرها و"ساطور" الرقيب.

التاريخ لا يعود للوراء، والتجارب لا يمكن تكرارها، وكيف نكررها وقد أغلقناها بأنفسنا؟

إسهام الدولة في الإنتاج والتي طالب بها الفنانون والمثقفون يعني:

- تمويل الأفلام الضخمة.

- فتح المجال في البنوك (المركزي له دور في ذلك) لتمويل الإنتاج.

- تيسير الحصول على التراخيص عموما وتراخيص التصوير في الأماكن العامة والاثرية بدلًا من أن يبني الهرم في دولة عربية مجاورة وتشيد المعابد هناك لتصوير الأفلام الأجنبية.

أما الدور الأهم، فهو حماية الفن وإبعاد مقص الرقيب عن رقاب المبدعين، فقواعد الرقابة على المنتج التليفزيوني معروفة في العالم أجمع إما من حيث المضمون أو المشاهد أو حتى توقيتات العرض. فمرة أخرى لا إبداع مع الخوف، ولا ثقافة مع الخوف، ولا فن حقيقيًا مع الخوف. الخوف لن يفرز لنا إلا منتجًا مصطنعًا لن يحقق ما نصبو إليه.

لا تملك مصر اقتصادًا قويًا، ولسنا دولة غنية. لكننا دولة ثرية بمثقفيها وفنانيها ومبدعيها الذين يمتلكون ناصية العقول والقلوب ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي أجمع، وتلك ثروة تفتقدها دول كثيرة.

فكيف تكون لدينا هذه الكنوز، ونتركها معطلة؟

كيف يكون لدينا هؤلاء النجوم الذين ملأوا الدنيا فنا وإبداعا ونهيل عليهم حملات شعواء حول أجورهم لاستثارة استفزاز الناس، وكأن العملية الاقتصادية أصبحت فقط ما يحصلون عليه، وليس ما يدرّونه من دخل، والأهم ما يحققونه من تأثير؟!

كيف يكرمهم العالم العربي من أقصاه إلى أدناه، ونحن نعاملهم بجفاء، فنخصم من سنوات عملهم، ونحدث الكبار منهم عن تجديد "الوجوه الفنية" وكأن روبرت دينيرو مثلا أو أنتوني هوبكنز عليهما أن يجلسا في منازلهما؟!

النظرية لا تستقيم، وخسائرنا منها كبيرة بلا مبرر.

أما أنت يا زعيم، يا من ذهبت إلى عقر دار الإرهاب- إلى أسيوط في صيف ٨٨ لتنتصر لفرقة مسرحية مغمورة من شباب تعرض للقتل والضرب بالجنازير، وقررت عرض مسرحيتك "الواد سيد الشغال" لكي تدافع عن فنك وعن نفسك وعن أسرتك وعن وطنك، وتعلنها بقوة أمام سيوف الإرهاب أن الفن ليس حراما، فنحن- جمهورك- ننتظرك، وأنا على يقين أنك ستطل علينا بنفس قوتك وألقك وبهجتك عما قريب.

فهناك ما لا يمكن احتكاره: حب الناس.

إعلان