إعلان

 أن تجلس على شاطئ "السوشيال" وتمد قدميك ..

د.هشام عطية عبدالمقصود

أن تجلس على شاطئ "السوشيال" وتمد قدميك ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 01 مارس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تكلم حتى أراك، ثم ضع بوستاتك حتى أعرفك، ومن الشير واللايك ستتضح الصورة أكثر، وعبر توالي الأيام عبر التايم لاين سيكتمل رسم المعالم، هكذا علمتنا تجربة وحكمة السوشيال ميديا ومضت بنا، فرادى ومجموعات، ومنها علمنا تاريخ تحولات البشر ونوع الأفكار التي يلبسها البعض وعيا وقصدا، صدقا وزيفا، عبورا أو بقليل أو كثير من دوام، فشكلت بحيرات السوشيال مصدرا يرتشف من أمطار حديثها وكلامها كثير من الناس، حتى اعتقدنا أنها صانعة صورة الحياة وأنها هي العالم بما يضمه من الأخبار وكل الحوادث وبيت عموم الحكايات وأن ما سوى ذلك سدى أو يقرب من ذلك.

هكذا مضت منصات السوشيال تصنع الأحداث وتؤطر القضايا، فتبرز ما تشاء بعد أن يحبه الناس جما أو يفضلونه قليلا أو حتى يسخرون منه، في فضاءات اتساعات السوشيال قد تجد كلاما ضخما وبكاء جمًا وتفاخرا بالحيازات وخواطر وتوقعات وحكايات وكذب وصدق ومآسٍ وتهريجٍ، من بوز البطة إلى مآسى البشر، من صور النجمات يرحن ويمشين على السجادات الحمراء إلى بعض ما تقشعر له الأبدان ألما ويأسا، هل قليل علينا إذا أن نكتئب؟

تتغذى بحيرات السوشيال بما يجود به مطر العواطف وتكبر بها، وتمضي لتكدس حزننا آثارا جانبية شاركنا جميعا فى صنعها لتنبت شجرة حزن فتظللنا بها ثم نسينا فبقينا.

فى ساحات السوشيال تمضي الحياة يومًا مرًا ويومًا حلوًا ولو تأخر كثيرا، وعلى زواياها وعبر بروفايلاتها تتجلى الحكمة مقطرة، وأيضا الزهد وافرا، ويتنزل التقى جمًا فى أحاديث الناس، بينما يصنعون بفرجتهم ومتابعاتهم وأيضا لايكاتهم أحداثًا وقضايا كبرى فى الخفاء، وهنا بكامل وعيهم يصنعون زوايا النظر للأمور ويبنون بحضورهم نجوم السوشيال ثم يأكلونهم عجوة بإدانات فى الواقع نسيوها وهم على السوشيال، ليكتمل حضور الازدواج ممارسة نفسية وسلوكا، وتتجلى "التقية" فى هذا الاتجاه وعكسه فى ثوب عصرى سوشيالى الطابع فريد، ألا.. ما أسوأ ذلك!.

حقا السوشيال هي ما يصنعه السوشياليون بها، يرفعون حدثا أو شخصا ليكون محورا ثم يخفضون غيره أو ينسونه فإذا انتبهوا أنكروا ما فعلوه سابقا، ليبقى السؤال الذى لم يعنِ أحد بإجابته شمولا وفهما، ومن واقع نمو السوشيال ميديا فى حياة البشر ألا وهو هل هي وتعبيراتها استطلاعًا طوعيًا بشأن اهتمامات الناس وما ينشغلون به ويفضلونه، ولو كان بسيطا وتافها فى نظر البعض، أم أنه اصطناع لاهتمامات تحدث بمعزلٍ عنهم، وتُغذي لهم بحكم كثافة حضورها لدى بوستات الآخرين؟.

جمعت السوشيال فى فرادة تاريخية غير مسبوقة كما وكيفا بين مدونات النخب على اتساع دائرتها وبين مدونات عموم الناس، أولئك الذين لا يعرفهم سوى الأقربين منهم والأصدقاء، وأدخلت الجميع فى بث فوري ومباشر وجماعي يحمل فيها التأثير من يملك الحكمة أو الطرفة أو الصورة الأبهى أو فرادة طرح المأساة.

القضية المهمة التى يكشفها ويبلورها ضخامة تمدد نفوذ السوشيال ميديا إنما تكمن فى محدودية أداء كثير من وسائل الإعلام، حين افتقدت إبداع طرح الأفكار والمعالجات، فاضطرت أو سهل عليها النقل والتبعية لما تطرحه السوشيال ميديا بمرها قبل حلوها، وبسذاجتها قبل جديتها، ثم وسعت دائرة التفنن لتصنع حكايات أخرى عما هو " حميمى" بالضرورة، سعيًا وراء وهم الترافيك، ذلك اللهو الخفي الذى لم يرفع شأن صحيفة أو موقعٍ يومًا، ولم يجعل أيا منها يكتفي إعلانيا أو يصل لمرحلة استقلال اقتصادي، هو سباق بين خاسرين على مزيد من خسائر صناعة المحتوى وجدية المهنة وثقة الرأي العام.

انتقال المبادرة من الميديا إلى سوشيالها هو تعبير عن أزمة متعددة الأبعاد فى أداء وسائل الإعلام وسياقات عملها، تحتاج إلى بناء إطار جديد للعمل وأنماط داعمة لإعلام لا يقف عند شاطئ الترفيه والتسلية – وهما بعض احتياج البشر- وفقط وإنما يمضي بهما مع غيرهما مما تضمه الحياة.

الناس على منصات السوشيال هائمون، يشاهدون ويقرؤون، يثرثرون ويخطبون، فإذا استيقظوا استعادوا بعضا من وعي وخاصموا كثيرا مما كان من سيرتهم التي تشكلت حكايات وخيالات على صورة ماء بحيرات السوشيال الراكدة.

إعلان