إعلان

سيرة إيهاب حسن غير التقليدية

محمود الورداني

سيرة إيهاب حسن غير التقليدية

محمود الورداني
08:45 م الخميس 07 فبراير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كنتُ قد تناولت هنا في موقع مصراوي بعض ملامح سيرة الناقد والمنظّر الكبير المصري الأمريكي إيهاب حسن (1925- 2015 ) "الخروج من مصر" الصادرة عن دار العين، وأواصل في السطور التالية التقليب في تلك السيرة المثيرة للجدل والتساؤل، لكنني أود أولا أن أنوّه بالجهد الضخم الذي يبذله في صمت المترجم الكبير سيد إمام منذ عدة سنوات، وأثمر عن إنجاز لافت يتضمن عددا كبيرا من أهم الكتب النظرية للنقد الأدبي المعاصر، تشكّل بالفعل إضافة للمكتبة النقدية العربية.

أما سيرة إيهاب حسن التي توفر على كتابتها عندما بلغ الخامسة والخمسين من عمره، أثناء قضائه إحدى الإجازات مع زوجته في ألمانيا، فإنه مما يلفت النظر بشدة فيها أنه لم يعد إلى مصر مطلقا، ولم يشعر بالرغبة في العودة، ويسخر بشدة من فكرة الجذور والوطن العريق وما إلى ذلك. لم يكن كارها لمصر عندما غادرها، لكنه أيضا لم يكن يشعر تجاهها بأي رابطة خاصة. وفي الوقت نفسه لم ينبهر بالحلم الأمريكي ويتخذ موقفا صارما ونقديا منه.
وإيهاب حسن، كما هو معروف، واحد من كبار المنظّرين والمفكرين لتيار ما بعد الحداثة الأدبي، وتعد مؤلفاته الأساس النظري الأضخم والأهم وما زال الباحثون الغربيون ينطلقون من إنجازاته.
وأثناء إقامته في مصر، حرص على أن يكون طالبا متفوقا ليتمكن من الفوز ببعثة على نفقة الحكومة المصرية لدراسة الهندسة الكهربائية عام 1946، لكنه تحوّل فجأة إلى الدراسة الأدبية وحصل على الدكتوراه في الأدب وفقد كل اهتمامه بمصر، ولم يعد إليها مطلقا واكتفى بإرسال ابنه مرة أو مرتين لزيارة الأسرة.
وعلى الرغم من مشاعره الملتبسة تلك تجاه مصر، إلا أن سيرته الذاتية تكشف عن معرفة حميمة بالوطن وذاكرة احتفظت بتورط عاطفي إلى هذا الحد أو ذاك. إيهاب حسن ابن أكابر بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فضلا عن أنه وحيد أبويه. عمه أحد الباشوات الذين تولوا وزارة الداخلية في العهد الملكي، وأبوه كان مديرا لعدة مديريات، ومن بين ذكرياته، ارتباكه (ارتباك الصبي إيهاب حسن) أثناء تقديمه باقة زهور ابتهاجا بتشريف جلالة الملك فؤاد.. تملك الأسرة مئات الأفدنة والعزب، وتمت بصلة قرابة مباشرة لأسرة محمد علي باشا نفسه.
ولكن في وقت ما، أجبر أبوه على الاستقالة بعد أن فشل في مواجهة مظاهرة نظمها حزب الوفد أثناء جولة للنحاس باشا زعيم المعارضة، سقط خلالها قتلى وجرحى، وفي الوقت نفسه دبر أحد الأقارب مؤامرة رخيصة للاستيلاء على جانب لا بأس به من ثروة الأب، فساءت الظروف.
اللافت للنظر تلك الذاكرة الحديدية واللاقطة. يتذكر حسن كل التفاصيل: تنقله مع أبيه في طفولته بين مديريات مثل سوهاج والفيوم والدقهلية والقليوبية بالدلتا وبورسعيد. يتذكر مربيته الإنجليزية والخدم الذين كانوا يحيطون به. مدن أوروبا التي اعتادت أسرته قضاء الصيف فيها. تعلمه للفرنسية باعتبارها لغته الأولى.. العزلة المفروضة عليه.. تجاربه شبه الجنسية المبكرة.
أما التحاقه بالمدارس الحكومية فقد ألقى به إلى الدنيا. يكتب حسن باستفاضة عن الدور الوطني الذي لعبه الطلاب.. عن الاحتلال البريطاني والمظاهرات بل واشتراكه فيها عندما التحق بالمدرسة السعيدية ثم كلية الهندسة. يكشف حسن هنا عن معرفته التاريخية الدقيقة وفهمه للمسألة الوطنية، لكنه مع هذا لا يتورط عاطفيا، وهو شخصيا لا يكن عداءً للاحتلال. يكتب أيضا عن شبابه الباكر وتفكيره في الالتحاق بالكلية الحربية (يشير هنا ساخرًا إلى أنه كان من الممكن أن ينضم لتنظيم الضباط الأحرار، لكن الأسرة رفضت. كما يشير إلى ما يشبه اللوثة الدينية التي استمرت قليلا، لكنه نجا منها قبل أن ينضم للإخوان المسلمين.
السيرة حافلة وتعج بتفاصيل دقيقة محفورة في ذاكرة صاحبها، ويبدو أن مصر التي غادرها بجسده إلى الأبد ظلت مسيطرة عليه على نحو بالغ التعقيد.

إعلان