إعلان

التواريخ والشخصيات فى عجائب  "التراجم والأخبار" ..

د.هشام عطية عبد المقصود

التواريخ والشخصيات فى عجائب "التراجم والأخبار" ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:09 م الجمعة 27 ديسمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يأتي الشتاء فيبعث الحنين والتأمل معا، وهما معا مسرتان تستدعيان هدأة للقراءات الممتعة، تلك الكتب التى تفوح بعطر الأوانات والأمكنة، وأجملها ما يحمل تأريخا لتفاصيل حياة الناس عبر العصور، حيث تتبدى الدهشة ألقا وهى تمضى بنا عبر الصفحات، لنعرف أن الحياة أبسط كثيرا من تعقيدات قد تملأ أدمغتنا حينا، ثم يتبقى لديك بعد ما قرأت حصاد، انتقاءات وأضواء على ما عرفه وأدركه الناس فى دورات الزمان البعيدة، وهى تؤرخ للبشر فى تفاعلاتهم مع الدنيا التى هى دوما "كما نعرفها".

ونضع هنا بعضا من نفحات كتابات عمنا الفقير الى الله الشيخ الجبرتى وهو يحكي عن أيام المحروسة وحياة المصريين فى زمانه وتاريخه الذى وثقه، والذى يقارب الآن قرنين من الزمان غير منقوصين شيئا، يمتعنا الجبرتى بمأثور المقولات وطرائف الحوادث والتواريخ فاتحا لنا منظور دلالتها بهيا مشرقا، فهو حين ينصرف إلى ما منحته خبرة الحياة من مخزون الحكمة يرى الإنسان ضئيلا فى متاهات دروب الكون وأنه يحتاج إلى أن يتوسط فى العيش سلوكا وفكرا، مذهبا وطريقة، ويقول: "من صرف همته كلها إلى تربية القوة الشهوانية باتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فحقيق أن يلحق بالبهائم إما غمرا كثور أو شرها كخرتيت أو عقور ككلب أو حقودا كجمل أو متكبرا كنمر أو ذا حيلة ومكر كالثعلب أو يجمع ذلك كله فيصير كشيطان مريد".

ويمضى فى نظراته لينثر الحكمة عطرا: "تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر .. فلا عائد صفو الشباب الذي مضى .. ولا زائل هذا المشيب المكدر".

وفى مجال استخلاص الدروس ووضع العبر من تواريخه ووفق ما عرفه من حوادث وما يسميه بنصايح الرشاد لمصالح العباد، يقول "من نظر في العواقب سلم من النوائب ومن استغنى بعقله ضل ومن اكتفى برأيه زل ومن استشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب ومن استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول"، ثم يستحضر حكمة الأولين أيضا بالقول: "وقالوا من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه .. فإن عموم البلاء منصوص واتقاء الفتن بالرحمة مخصوص".

وفى مساحة ممتعة رحيبة عن أحوال الناس وسريان الأحداث وما يصنعه العوام والذين يصفهم أحيانا كثيرة مقللا منهم بالجعيدية والأوباش والحرافيش فى تأفف وتنصل ربما من سلوكياتهم غير النخبوية أو العاقلة كما يرى ذلك "وفي آخر جمادي الثانية ظهر رجل من أهل الفيوم يدعى بالعليمي قدم إلى القاهرة وأقام بظهر القهوة المواجهة لسبيل المؤمن فاجتمع عليه كثير من العوام وادعوا فيه الولاية وأقبلت عليه الناس من كل جهة واختلط النساء بالرجال وكان يحصل بسببه مفاسد عظيمة".

ثم يرصد تحولات حياة الناس بين دورات الندرة والوفرة، ومايفعله الزمان من تحولات تقلبات فى المجتمعات بين رخاء وشدة، كما دورة الشمس والقمر بين نهار وليل، فيرصد بعض أوجه الشح والغلاء ثم يعقبها بأوجه الرفاهية والمتعة، "سنة ست عشرة ومائة وألف في تلك السنة توقف النيل عن الزيادة ضج الناس وابتهلوا بالدعاء وطلب الاستسقاء واجتمعوا على جبل الجيوشي وغيره من الأماكن المعروفة بإجابة الدعاء فاستجاب الله لهم في حادي عشر توت وشذ ذلك من النوازل فى بعض البلاد فحصل الغلاء وبلغ سعر الأردب القمح مائتين وأربعين فضة والفول كذلك وبيع اللحم الضاني كل رطل بثلاثة أنصاف فضة والجاموسي والبقري بنصفي فضة والدجاجة بثمانية انصاف والبيض كل ثلاث بيضات بنصف وكثر الشحاذون في الأزقة".

وتظهر تلك التباينات فى الأحوال تبدلا إلى رخاء فى وصف شيق ممتع آخاذ كأنه صور من طيبات الحياة وهى تتدلى عناقيدها، فتمنحنا نصوصه تعبيرا مسترخيا فى ذات حيز الزمان، فيقص لنا عن شأن الترف حينما تتهادى أيامه تحمل سعدا إلى الناس "فعملوا على معظم البركة أخشابا مركبة على وجه الماء يمشي عليها الناس للفرجة واجتمع أرباب الملاهي والملاعيب وغيره من سائر الأصناف والفرج والمتفرجون والبياعون من سائر الأصناف والأنواع وعلقوا القناديل والوقدات على جميع البيوت .. وفي كل بيت منهم ولائم وعزائم وضيافات وسماعات وآلات وجمعيات واستمر هذا الفرح والمهم مدة شهر كامل والبلد مفتحة والناس تغدو وتروح ليلا ونهارا للحظ والفرجة من جميع النواحي .. المدينة عامرة بالخير والناس مطمئنة والمكاسب كثيرة والأسعار رخية والقرى عامرة وبعد تمام الشهر زفت العروس في موكب عظيم شقوا به من وسط المدينة بأنواع الملاعيب والبهلوانات والجنك والطبول ومعظم الاعيان والجاويشية والملازمين والسعاة والاغوات أمام".

إعلان