إعلان

قصة إرهابي

قصة إرهابي

عمرو الشوبكي
09:00 م الخميس 29 مارس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

صادف أن أكون أكثر من مرة في فرنسا قبل أو بعد عملية إرهابية، ولكن هذه المرة كنت في باريس، وعايشت بمتابعة حية عملية الإرهابي الفرنسي من أصول مغربية رضوان لكديم الذي قتل 4 أشخاص، بينهم ضابط في عملية اعتداء على أحد المتاجر الكبرى، وتمت تصفيته.

وقد فتحت قصة التطرف والمتطرفين في فرنسا وأوروبا باب التأمل لطريقة التعامل مع ظاهرة العنف والإرهاب في بلادنا، والفروقات الكبيرة بين السياقين حتى لو لم تحقق تجارب أوربا نجاحا حاسما في مواجهه الإرهاب.

والحقيقة أن قصة المتطرف الفرنسي من أصول عربية هي قصة متكررة مع أغلب من مارسوا عمليات إرهابية في أوروبا، وخاصة في فرنسا، فهو ليس جهاديا ولا تكفيريا بالمعني العقائدي للكلمة، ولم يغص لسنوات بين تفسيرات دينية متطرفة دفعته للعنف والتطرف، إنما هو ابن الأحياء المهمشة، وله تاريخ حافل في جرائم السرقة وتجارة المخدرات، وتم توقيفه في 2015، ثم بدت عليه بعض أعراض التطرف، من خلال تصفح مواقع داعش، فبدأت شرطة مكافحة الإرهاب في مراقبته ووضع على قوائم المتطرفين المرشحين للقيام بعمليات إرهاب (يصنفون تحت حرف S ) وعددهم في فرنسا 19 ألفا و725 غالبيتهم من أصول عربية، ومع ذلك فلت من الرقابة، وقام بعمليته الإرهابية.

والحقيقة أن مسألة التعامل مع العناصر المتطرفة قضية مطروحة في البلاد الديمقراطية، وبلادنا غير الديمقراطية، والتعامل في الحالتين ليس واحدا، فليس هناك ما يمنع قيام الدولة في مصر ببناء سجون جديدة ووضع كل المشتبه فيهم داخلها، ومع ذلك لم تحل مشكلة الإرهاب الذي ظل موجودا ولم توقفه سياسات توسيع دائرة الاشتباه.

ونفس الأمر في معظم الدولة الأوربية، فهناك في بلد مثل فرنسا ما يقرب من 20 ألف عنصر متطرف موضوعين على قوائم مراقبة وتطرف، فلماذا إذن لا يتم اعتقالهم؟ ولماذا لا تبنى سجون جديدة في فرنسا لوضعهم فيها وفق النظرية السائدة عندنا بأنه لا مكان للديمقراطية وحقوق الإنسان في بلد يتعرض للإرهاب.

والحقيقة هناك حتى هذه اللحظة من يطالب بتشديد الرقابة عليهم وعدم الاكتفاء بالتنصت على هواتفهم، واستخدام أدوات حديثة لرصد تحركاتهم واعتقال الخطرين منهم، في حين يرى الرأي الغالب (حتى الآن) أن معظم هؤلاء لن يمارسوا العنف، وأن إدخالهم السجون سيعني تحول كثير منهم نحو مزيد من التطرف، وسيؤثر ذلك في البيئة المحيطة بهم من أهل وأصدقاء (والمقصود هنا الجالية الفرنسية من أصول إسلامية) أي أن اعتقال الجميع سيزيد من التطرف، لأنه سيخلق بيئة انتقام وكراهية على نطاق أوسع ضد الدولة الفرنسية.

والحقيقة أن هذا المدخل الذي يصفه البعض بالإنساني والمتسامح مع هذه النوعية من المتطرفين، لم يؤد إلي حسم معركة البلاد الأوروبية مع الإرهاب حتى نستطيع القول إن الديمقراطية قضت على الإرهاب وكذلك حقوق الإنسان، إنما يمكن القول إنها حاصرته نسبيا، وحققت نتائج أفضل بكثير من كل النظم العربية التي اعتمدت فقط على الأدوات الأمنية.

والحقيقة أن قضية البيئة الحاضنة التي تكلمنا عنها مرارا وتكرارا بات العمل على تحييدها واختراقها أكثر أهمية من مواجهة العناصر الإرهابية نفسها، فالحكومة الفرنسية مثل معظم الحكومات الأوروبية لا تريد أن تتبنى سياسات قائمة على توسيع دائرة الاشتباه، فيكفي القول إنه بعد هذه العملية الإرهابية أوقفت السلطات الفرنسية شخصين فقط (وليس آلاف أو مئات الأشخاص) لجمع معلومات عن علاقات الإرهابي الداخلية والخارجية بعد أن أعلن لحظة قيامه بالفعل الإرهابي مبايعته لداعش.

كما اتصلت الشرطة بأم الشاب، وأحضرتها مع اثنين من إخوته لمسرح العملية، ووضعتهم في تواصل مع الإرهابي في محاولة لتسليم نفسه وإطلاق سراح الرهائن، واعتبرت الدولة نفسها في صراع مع قوي التطرف على استقطاب البيئة الحاضنة من الأهل والأقارب حتى المتدينين من الفرنسيين المسلمين.

لقد اعتبرت الحكومة الفرنسية ومعها باقي القوى السياسية والمجتمعية (باستثناء اليمين المتطرف) أنه لا يجب الصدام مع البيئة الاجتماعية التي خرج منها رضوان ومن هم مثله من الفرنسيين ذوي الأصول العربية بالتنكيل أو بتوسيع دائرة الاشتباه، وهي رسالة مهمة علينا أن نستوعبها في التعامل مع أهلنا في سيناء، حين يتم توسيع دائرة الاشتباه أو إساءة المعاملة كنوع من العقاب الجماعي على وجود خلايا متطرفة هناك.

حققت البلاد الديمقراطية نجاحات غير مكتملة في حربها على الإرهاب مقارنة بمجتمعاتنا، وذلك بتبنيها سياسات مركبه تميز أولا بين البيئة الاجتماعية الحاضنة التي تفرز المتطرفين، وبين المتطرفين أنفسهم، وتميز ثانيا بين العناصر المتطرفة التي تضعها الدولة تحت مراقبة رخوة في كثير من الأحيان (مطلوب بالطبع نظام رقابة أكثر صرامة) وبين العناصر التي لديها هشاشه نفسيه وقابلية للتطرف، دون أن تتحول بالفعل لعناصر متطرفة وعنيفة.

وهنا خرجت دراسات كثيرة ميزت بين الاثنين، واستخدمت أدوات مختلفة في التعامل مع كل منهما، فركزت على الأدوات الأمنية في التعامل مع العناصر المتطرفة، في حين ركزت على علم النفس والإجراءات الاجتماعية والسياسية وأحيانا الدين في التعامل مع العناصر التي لم تتحول بعد للتطرف.

ستبقى قضية الفرنسي من أصول عربية رضوان لكديم اجتماعية وسياسية وثقافية، كما يعي أغلب من يقودون هذه البلاد حتى لو ارتدت مائة قشرة دينية لحظة الفعل الإرهابي.

إعلان