إعلان

حين كان الغيطاني مراسلاً حربياً

حين كان الغيطاني مراسلاً حربياً

عمرو الشوبكي
09:00 م الجمعة 23 فبراير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

رحلة المراسل الحربي مع معارك الجيش قديمة، ومن عمر الصحافة المصرية، ورحلة صحافة العالم مع الحروب هي أيضاً رحلة قديمة ومتنوعة، وهي واحدة من أكثر محطات الصحافة توهجاً وصناعةً للقصص الخبرية والإنسانية العظيمة، وكثير من الحروب حفرت في وجدان شعوبها بفضل تغطية الصحافة والإعلام لها.

والحقيقة أن غياب المراسلين الحربيين عن معارك الجيش المصري الأخيرة في سيناء، يعيد طرح السؤال مرة أخرى، وهو: متى سنرى عودة المراسل الحربي حاملاً لتقاليد مهنته، ومدافعاً عنها، ومؤمناً بحروب دولته العادلة ضد الإرهاب؛ بحيث لا يصبح مجرد ناقل لما يُملى عليه من بيانات أو توجيهات، إنما يحترم القواعد التي يضعها الجيش في نقل أخبار المعارك مثلما تفعل كل جيوش العالم؟

والحقيقة أن تجربة صحفي وأديب بوزن جمال الغيطاني مع معارك الجيش المصري لها أكثر من دلالة، فالرجل عمل مراسلاً حربياً على ضفاف قناة السويس منذ حرب الاستنزاف في 1969، حتى نصر أكتوبر 1973، نقل فيها أخبار الجنود وجبهات القتال وأهالي مدن القناة بكل وطنية وشفافية وحس أدبي وإنساني مرهف.

لقد غطى الغيطاني معارك الجيش المصري وبطولاته في مواجهة عدو شرس ومدعوم من أقوى دول العالم، وهو الجيش الإسرائيلي، ونقل أخبار الجنود ومشاعرهم الإنسانية مع بطولاتهم الحربية جنباً إلى جنب في واحدة من أروع القصص الخبرية والأدبية في تاريخ الصحافة المصرية.

أن يعمل أديب بوزن جمال الغيطاني مراسلاً حربياً على جبهة القتال هو في الحقيقة عنوان لمرحلة كاملة لم يستخسر فيها كل صاحب موهبة وكفاءة أن يقدم روحه فداءً لمهنته، وشرفٌ أن يكون على جبهة القتال ما دام أن بلده طوى صفحة إعلام الأكاذيب والهزيمة الذي عرفه في 67، وفتح الباب لإعلام شفاف ونزيه انتصر مع الجيش في حرب أكتوبر، وكان أحد عناوينه الغيطاني مراسلاً حربياً على جبهة القتال.

والحقيقة أن الغيطاني لم يكن مجرد كاتب صحفي عادي، إنما هو أديب كبير، ودارس وعاشق لتاريخ القاهرة القديمة بشكل نادر، وروايته الزيني بركات واحدة من أهم روايات الأدب العربي، بالإضافة لأعمال أخرى لامعة، مثل: وقائع حارة الزعفراني، والتجليات، ورسالة البصائر والمصائر، والرفاعي وغيرها الكثير.

يقيناً الجيش المصري لم يكن عنده ما يخفيه، ولم يعتبر المراسلين الحربيين عبئاً عليه رغم قسوة معركته، ودهاء عدوه الذي كان يجري وراء أي تسريب أو معلومة صحفية شاردة، إلا أن ذلك لم يمنع الجيش من السماح للغيطاني ومعه الكثير من الصحفيين المصريين بالعمل في قلب المعارك، وعلى جبهات القتال.

الغيطاني كان أحد عناوين مرحلة انتصار سُمح فيها له بالعمل في أصعب الظروف مراسلاً حربياً، يكتب ما يمليه عليه ضميره المهني والأخلاقي وفق القواعد التي يضعها الجيش المصري مثل كل جيوش العالم، لا أن يكتب ما يملى عليه، أو يردد فقط البيانات العسكرية.

كتب الغيطاني عشرات التقارير الصحفية من جبهة القتال، فنشر 6 رسائل صحفية عن الجنود، وكتب "رسائل مقاتل من أعماق سيناء"، وكتب أيضاً "أكلة الدبابات في موقع عبدالعاطي ورجاله"، وبفضله تحولت بطوله عبدالعاطي صائد الدبابات إلى أسطورة في الضمير الشعبي المصري.

ولعل التقرير الذي نشره "مصراوي" في ذكرى رحيل الغيطاني (مراسل حربي بدرجة رسام) عن دور الرجل في تغطية المعارك الحربية، وأيضاً تأثره بعمله مراسلاً حربياً، حيث عرف عنه انضباطه الشديد، ومواعيده المحددة، وامتلك هندسة وبنياناً خاصاً في الكتابة الصحفية والروائية، وكان من نتائج انضباطه الغزارة في الإنتاج الصحفي والأدبي.

وغطى الغيطاني الحرب اللبنانية، والحرب العراقية الإيرانية، كما غطى دور الجيش العراقي البطولي في حرب 1973، ورغم أن المنطقة العربية حالياً مليئة بحروب داخلية كثيرة في ليبيا والعراق وسوريا واليمن إلا أن تغطية الصحافة المصرية لها تراجعت حتى وصلت لدرجة الغياب.

والحقيقة أن فلسفة عمل المراسلين الحربيين الذين عرفناهم في مصر طوال تاريخنا، تقوم على معادلة بسيطة: فهم بالتأكيد صحفيون محترفون ومهنيون، وهم في نفس الوقت لا يغطون أخبار فيلم، أو نزهة على النيل، إنما أخبار حرب حقيقية تسقط فيها أرواح، وتعد فيها خطط ومناورات عسكرية، وبالتالي القواعد التي يضعها الجيش هنا لا تقبل المزاح، وهي لا تلغي مهنية الصحفي والمراسل الحربي، إنما تضبطها بما لا يضر بسير العمليات العسكرية.

لقد عرفت مصر وضعاً طبيعياً مثل كل دول العالم، بوجود مراسلين حربيين في ظل ظروف الحرب الاستثنائية، وهو أمر يجب استعادته مرة أخرى، رغم كل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، فمعركة الشعب والجيش ضد الإرهاب معركة عادلة وشهداء الجيش هم شهداء الوطن كله، ومصر كلها في حاجة لعودة المراسلين الحربيين مرة أخرى للعب دورهم في تقديم خدمة صحفية ومهنية لما يجري على أرض الواقع، خاصة في سيناء بكل ما تمثله من تحدٍ أمني يتعلق بالحرب على الإرهاب، وإنساني يخص أهلنا في سيناء، وتنموي وسياسي فيما يتعلق بمواجهه البيئة الحاضنة التي تفرز الإرهاب، وهي كلها أمور تستحق عشرات المراسلين.

نعم الجيش المصري وسيناء في حاجة لعودة الروح الصحفية مرة أخرى (مثلما كان عليه الحال في المعارك السابقة) لعملياته الحربية في سيناء، وهذا لن يتم إلا بعودة المراسل الحربي مرة أخرى على أرض الواقع ينقل ما يجري وفق الضوابط المتعارف عليها.

إعلان