إعلان

 نافذة القطار ...قصة قصيرة

نافذة القطار ...قصة قصيرة

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 21 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

القطار المتوقف على المحطة ذات الرصيفين المتواجهين يشبه مدينته الصغيرة، قديم تختلط ألوان عرباته كأنها تم تجميعها عبر أزمنة مختلفة، حتى درجة اللون الأصلي تأخذ حصتها من الخفوت وظلال التراب الذى يختلط بها، يظهر وجه ناظر المحطة من وراء شباك حديدي صغير، تتناول منه التذكرة الورقية وتمضي في اتجاه القطار، تحمل المرأة طفلها الصغير وتمسك بيد ولد أكبر وهي تعبر مسرعة في ذات الاتجاه، يسير عدد قليل من الأفراد يميز أكثرهم زي ريفي، يحمل الناس أشياء كثيرة يبدو بعضها ثقيلًا، حقائب قماشية وأكياس تبدو من بعضها ثمار الفاكهة التي دأبت القرى المحيطة على زراعتها، تكون قد انتقيت صحيفتين يوميتين، ثم تتأكد من وجود الكتاب الذى اخترت أن يرافقك خلال هذا السفر، تفضل كتابا لا يرهقك وسيكون جميلا لو تضمن شيئا مسليا، مثل تلك الكتب الشائع تواجدها عند أكشاك محطات القطارات الكبيرة، اخترت كتابا يحمل عنوان "أشكال الحياة في السفن العابرة للمحيط"، تراه مناسبا تماما في رحلة هذا القطار الذى يقطع مسافة كبيرة وهو يمضي متمهلاً، وستبدو أنك مستغرق فيه حين يحاول البعض إطالة الحديث معك، كما سيمنحك حرية أن تغادر سطوره حين تحب النظر لشيء ما، ثم تعود إليه تستكمل صفحات أخرى في تتابع لا يزعج.

هذا القطار يمر عبر كل القرى والمدن الصغيرة بمحاذاة النيل، يبدأ محطاته من مدينة صغيرة، بالقطار درجتان ثانية وثالثة لا يختلفان في شيء سوى أن التواجد في عربات الدرجة الثانية ستمنحك إمكانية اختيار مقعد بعيدا عن مدخل عربة القطار والباب الملاصق لها وإلى جوار النافذة تماما، في الاتجاه الذي يمضي مع واجهة القطار.

شكل المدن الصغيرة والقرى التي تتابع من خلال النافذة يبدو مألوفا، هادئة تمضي وتسلم إلى أخرى تشبهها وجميعها تحمل رائحة ثقيلة في أول الغروب، بعض اللمبات الخافتة الضوء تنبعث من أعمدة إنارة على طرق صغيرة تتقاطع مع حركة القطار وتفضي إلى داخل القرى المتناثرة، تناثر البيوت التي تبدو "قوالب" الطوب الأحمر التي شيدت بها متراصة في صفوف أفقية يفصلها اللاصق الأسمنتي الرمادي، طوابق قليلة تحمل شكل الصبر وعدم الاهتمام بالعالم خارجها.

تحمل وجوه الركاب شيئا مألوفا يبدو متكررا، لا شيء كبير يميز بينها سوى اختلاف العمر، يستعد البعض عند الباب في انتظار توقف القطار في المحطة القادمة، يهدئ السائق من سرعته ويبدأ ظهور الأفراد الواقفين على رصيف المحطة حين يتجاوزهم القطار بطيئا قبل أن يقف تمامًا، لا يتغير شيء، يصعد آخرون يشبهونهم، بينما يستيقظ واحد هنا أو هناك ينظر إلى اسم المحطة أو يسأل جاره عن اسمها ثم يواصل نوما متقطعا، يعبر في منتصف العربة بائعو الحلوى، يقول الجالسون لم يكن القطار المسائي هذا شبه خالٍ على النحو الذى نراه الآن، كان مزدحمًا قبل أن تتشكل طرق تصل بشكل أسرع وأقل تكلفة إلى داخل المدن والقرى بينما يمر بها القطار فقط من خارجها.

صوت حركة القطار لا يتغير منذ تلتقطه الأذن في أول رحلة سفر يدرك فيها الإنسان الطبيعة الخاصة للأصوات، صوتا عريضا متثاقلا متكررا، وخيط دخان يمضي صاعدا في الفضاء معه كأنه يعلن للبلدات القادمة عن وصوله.

ما زالت هناك سبع محطات أخرى تالية حتى ينتهى السفر من تلك البلدة الصغيرة التي تحمل اسما ينتمي إلى عصر تاريخي قديم أصابه تعديل لغوى بسيط لكنه ظل محتفظا بأصل الحروف، تعيش القرى على مر القطار تحمل تاريخها الطويل وتعيد تكرار الوجود وتمضي مع الزمن، يتضاءل الغروب مع حركة القطار، وتختفى أشكال الحقول الممتدة لتنعس في ليلها الداكن، وفي السماء تتكاثر النجوم وتبدو كنقاط ضوء بعيدة ، المساء يفرد مظلته تمامًا، وتتحول المسافات من شباك القطار إلى امتدادات بلا شكل محدد، مع كل محطة يغادرها القطار، تبدأ أكثر ملابس الركاب تأخذ زي المدن.

حين يقترب القطار من المدينة الريفية الكبيرة، ستعرف ذلك من أضوائها التي تنطلق من المحلات المتراصة، ومن المكتبة الصغيرة التي على ناصية آخر مزلقان للقطار قبل أن يتوقف تماما، حركة الناس تزداد زحاما، تفاجئك رائحة الطعمية تنبعث في الجو شهية تماما، تعرف ذلك المحل الصغير الذى يقدم الطعمية في أرغفة الفينو الطويلة الرفيعة وعليها قطع الطماطم الصغيرة منثور فوقها كثير من الشطة الحارقة، ستنظر في ساعتك وتتحجج في داخلك بأن الوقت قد تأخر، وحين تكون في مواجهة المحل الصغير تماما، ستأخذ رغيفين وتجلس على كرسي في ذلك المقهى المجاور منتظرا كوب شاي، تنظر إلى الهاتف ثم تبطل صوته وتضعه في الجيب الخارجي للحقيبة الصغيرة، تأكل بينما يصافح وجهك هواء الشارع متأملا ذات القطار يقف في رصيفه هناك، مستعدا ليأخذ طريق إيابه الذى يعرفه واعتاده عبر السنين.

إعلان