إعلان

مراكز الفكر وتفعيل الحوكمة العالمية في التنمية المستدامة

مراكز الفكر وتفعيل الحوكمة العالمية في التنمية المستدامة

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م الأحد 07 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مع التحولات التي يشهدها النظام العالمي ليس فقط على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وإنما بالمثل على الصعيدين الثقافي والبيئي من خلال تغير المناخ وتداعياته، وتصاعد نبرة القومية والشعبوية من جديد.

وحيث أن سياسات الحوكمة العالمية تضع من حين لآخر خططا تنموية تعمق من الاندماج العالمي اقتصاديا وثقافيا، من خلال إجراءات تضمن أن يتم الاندماج بشكل كفء وفعال- ومن المفترض بمشاركة الجميع- وهي إجراءات تتعلق بتحقيق الشفافية والنزاهة وفق قواعد قانونية وتنظيمات معلومة وبمناهج علمية تضمن موضوعية السياسات والإجراءات والنتائج. يزداد العبء الواقع على دول العالم الثالث تحديداً. وهو عبء ليس هيناً. فصحيح أنه ليس مطالبا من دول العالم أن تحقق نتائج في السبعة عشر هدفا، ولكنها مطالبة ببذل الجهود التي من شأنها التقدم في عدد من الأهداف، بما يتوافق مع أولوياتها الوطنية.

ورغم ما سبق، فإن تحديات الفقر والتشغيل والأمن والسلام والمساواة المتضمنة في أهداف التنمية المستدامة والضامنة لتحقيق تنمية شاملة هي تحديات تشترك فيها دول العالم بنسب متفاوتة. وتتطلب مقاييس ومؤشرات لضمان تحقيقها بشكل كفء وفعال. وبالنسبة لمصر- وطننا الذي يعنينا- فعلى غرار خطة التنمية المستدامة العالمية تم وضع خطة وطنية للتنمية المستدامة، المعروفة بـ"استراتيجية مصر للتنمية المستدامة ٢٠٣٠" .

وقد أطلقها السيد رئيس الجمهورية في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ٢٠١٥ معلنا بذلك التزام مصر بمتطلبات الحوكمة العالمية الضامنة لوضع خطة مصر للتنمية المستدامة موضع التطبيق.

ويعتبر ذلك التوجه هو الأول من نوعه في مصر الذي يتم فيه ربط التنمية المستدامة بإجراءات الحوكمة، مقارنة بالأهداف الثمانية للألفية الثالثة، التي لم يتوافر لها إطار واضح للحوكمة، والتي أخفقت معظم دول العالم في تحقيقها.

وتتبدى الإشكالية ليس في فهم أهداف التنمية المستدامة، وإنما في وضعها موضع التطبيق بفهم المؤشرات الخاصة بها وتطويرها. المؤشرات تحتاج لعمل بحثي أكثر من مجرد عقد ورش عمل لمناقشتها.

فبالنظر- على سبيل المثال- للهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة، وهو الشغل الشاغل لكل دول العالم النامية والآخذة في النمو والمتعلق "بتحقيق نمو اقتصادي مستدام ومتضمن كافة الأطراف والعناصر وتوفير فرص عمل منتج وجيد للجميع"، فإنه على الرغم من وجود فائض في القيمة لدي دول العالم النامي وبعض الدول الآخذة في النمو، بالإضافة للتقدم السريع في نظم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات فقد أثر ذلك في زيادة معدلات التشغيل في بعض دول العالم، مقارنة بدول أخرى أقل نموا من جهة، كما أدى إدخال التكنولوجيا في العديد من وسائل الإنتاج إلى التمييز بين المنتج الجيد وغير الجيد من جهة، وزيادة إنتاجية القوى العاملة (كمية ما ينتجه العامل) والإسراع في عملية الإنتاج، ما أدى لزيادة العرض على الطلب، وإخفاق المعروض في خلق الطلب عليه بسبب تدني القوة الشرائية في العديد من دول العالم، وخاصة في دول العالم الآخذة في النمو التي تخضع لموجات متلاحقة لتحرير اقتصادها.

ومثل هذه التطورات تشكل تحديا في وجه النمو الاقتصادي "الآمن" في معظم دول العالم من جهة وفي إمكانية تحقيق معدلات تشغيل مرتفعة تتجاوز التطور التكنولوجي في عمليات الإنتاج، ومن ثم تحقيق التوازن في التشغيل العالمي بضمان وجود حد أدنى من القوة الشرائية بدون إحداث زيادة في عجز الموازنات، خاصة في دول العالم الآخذة في النمو. وبدون العناية بتحقيق الهدف الثامن قد يصعب تحقيق الهدف الثاني عشر المتعلق بالإنتاج والاستهلاك المسئولين، والهدف الأول وهو القضاء على الفقر والهدف الخامس الخاص بالمساواة النوعية في الحصول على أجر، والهدف السادس عشر حول تحقيق العدالة والسلام.

...

وبالعودة مرة أخرى للهدف الثامن، فإن مؤشرات تحقيق هذا الهدف تتمحور حول رفع معدلات النمو في دول العالم الأقل نموا بما لا يقل عن ٧٪ من الناتج القومي الإجمالي سنوياً، وتنويع الإنتاجية الاقتصادية من خلال إدخال التكنولوجيا والابتكار بالتركيز على القطاعات كثيفة التشغيل، وجود سياسات تشجع التشغيل والابتكار والأعمال الصغيرة والمتوسطة، وتستوعب العمالة التي تعمل خارج نظام السوق الرسمية، موازنة التقدم الاقتصادي مع الكفاءة والرشادية في استخدام الموارد الطبيعية، زيادة معدلات تشغيل الشباب وإلحاقهم بالتعليم والتدريب بحلول عام ٢٠٢٠، حماية حقوق العمال وتوفير بيئة عمل آمنة لهم، تقوية المؤسسات المالية المحلية وتمكين المواطنين من الوصول للمؤسسات المالية وزيادة المساعدات لحفز التجارة في الدول الأقل نمواً.

فهل يمكن تصور دراسة تلك المؤشرات بدون وجود مراكز فكر؟ أعتقد سيكون الأمر صعباً ومتعثراً. لماذا؟ لأننا لا نتناقش في تطبيق أرقام، وإنما في تطبيق أفكار. والأمر جد مختلف. فنحن بصدد مناقشة دور دول العالم الآخذة في النمو في الحصول على نصيبها من التبادل التجاري والحصول على التكنولوجيا التي تمكنها من تطوير إنتاجها، وقدرتها على التنافس على أسس من الشراكة الحقيقية. وعلاقة تشجيع الابتكار بتوفير مناخ ملائم للابتكار. وجميعها قضايا فكرية تتطلب دراسات وأبحاثًا ومناقشة مخرجات تلك الأبحاث بشكل مستفيض وبمشاركة الأكاديميين والخبراء وأصحاب الرأي.

إن تحقيق الهدف الثامن يتطلب من دول العالم الثالث أن تقفز قفزات تنموية تعجيزية دون وسائل إنتاج متطورة، ودون امتلاك التكنولوجيا ودون موضع قدم حقيقي في التبادل التجاري الدولي. فكيف ستتمكن دول العالم الثالث، ومنها مصر، من وضع المؤشرات السابقة موضع التطبيق وصياغة سياسات بالاعتماد فقط على سياسة لزيادة معدلات النمو دون إحداث التوازنات السابقة من جهة، ودون منهجية تكشف عن أن تطبيق أحد الأهداف مرتبط بتطبيق الأهداف الأخرى؟ ومن سيقوم بكتابة التقارير التي توضح نسب التقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة في ظل غياب أدوار لمراكز الفكر؟

إذا كان التقرير المصري الذي صدر عام ٢٠١٦ في هذا الصدد قد أشار إلى سعي مصر لإدماج المجتمع المدني في تحقيق الأهداف السابقة، فدور مراكز الفكر ليس واضحاً.

فإلى الآن- ونحن في عام ٢٠١٨- لم تخرج دراسة علمية حول الأسس الفكرية والمنهجية التي تحكم تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، ووجهة نظر الشعب المصري، من خلال مفكريه وخبرائه من الأكاديميين والممارسين في إمكانية الوفاء بالالتزامات السابقة بشكل متكامل دون تداعيات اجتماعية واقتصادية سلبية؟ بل حتى الانتقال من التفكير إلى كونها ليست مجرد أفكارا معطاة إلى مناقشتها في مضمونها ومحاولة أن يكون لنا دور- كدولة من دول العالم الثالث- في تطويرها أو نقدها.

هذا لن يتحقق إلا بدور فعال لمراكز الفكر.

إعلان