إعلان

تلك العبودية المحببة

تلك العبودية المحببة

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 26 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كنت أقرأ كتابا بالإنجليزية، وتعثرت في فهم معنى كلمة. لجأت إلى الإنترنت لأفتح القاموس، لكن الإنترنت كان معطلا، وظلت كذلك لعدة ساعات. تمنيت لو أني لم أتخلص من القاموس كبير الحجم الذي كنت اشتريته قبل زمن الإنترنت. في الحقيقة أنا غير متأكد ما إذا كنت قد تخلصت منه بالفعل، فليس من عادتي التخلص من الكتب، لكني لم أعد أعرف مكانه بعد سنوات من الإهمال. شعرت بالعجز بسبب حالة العبودية التي ضبطت نفسي متلبسا بالوقوع فيها تجاه شبكة الإنترنت والتكنولوجيا.

فكرت في الأشياء الكثيرة التي أصبحنا معتمدين عليها، والتي لا يمكن تصور الحياة بدونها. هل أصبحنا أكثر استقلالا، أم أننا فقدنا الاستقلال لصالح أشياء خارجة عنا لا نسيطر عليها. الكهرباء، حدثني عن الكهرباء، هذا الشيء غير المرئي الذي يسري في الأسلاك والكابلات، فيضئ المنازل والشوارع، ويغذي المحركات والسخانات والدفايات وأجهزة الاتصال والحواسيب وأجهزة الآشعة والتحليل والعلاج، وكل شيء، والتي أصبح توافرها هو معيار نجاح أو فشل الحكومات في بلاد الشرق الأوسط وأفريقيا.

فكرت في الأشياء الكثيرة التي كان الناس يقومون بها في الماضي بدون تفكير أو عناء، لكننا لم نعد نستطيع القيام بها بنفس الطريقة. مالم تكن هناك وسيلة مواصلات مريحة فسوف أمتنع بالتأكيد عن الانتقال لمسافات كان الناس في الماضي يمشونها يوميا دون تردد. لو تعطل جهاز التكييف في المكتب في أحد أيام الصيف، فلن أذهب للعمل حتى أتأكد من إصلاحه. لا يمكنني تخيل حمام لا يجري في مواسيره الماء الساخن. طعام الإفطار المفترض وجوده في الثلاجة طوال الوقت، كما لو كانت الثلاجة تلده، ودون أن أكون مضطرا للخروج بحثا عن الطعام بمجرد الاستيقاظ.

التكنولوجيا والحياة المريحة مترادفان، ومعهما يأتي الكسل ونسيان المهارات البسيطة، والعجز عن أداء الأمور بعشرات الطرق البديلة. لكن التكنولوجيا لا تأتي بالرفاهية والكسل فقط، فالأهم من ذلك هو أنها تحفظ الحياة وتجعلها ممكنة. التقدم المذهل في تكنولوجيا العلاج والرعاية الصحية والتطعيم ضد الأمراض ينقذ في كل يوم حياة الملايين من البشر. ولادة الأطفال كانت في الماضي اختبارا صعبا للأمهات، فوفيات الأمهات أثناء الولادة كانت حادثا متكررا. كانت وفيات الأطفال في الماضي شيئا عاديا، وكانت الكثير من الشعوب تؤخر تسمية المولود لبعض الوقت للتأكد من أنه سيواصل الحياة. قبل عقود قليلة لم تكن هناك أمًا لم تمر بخبرة فقدان وليد صغير أو أكثر. في أيامنا هذه أصبح من النادر أن تصادف أما مات لها وليد صغير، فالرعاية الصحية، بعد لطف الله، أصبحت تحفظ للصغار حياتهم. عاطفة الحب والتعلق الشديد لأمهات وأباء عصرنا بأطفالهم هي ظاهرة حديثة، فالوالدين في الماضي لم يكن بإمكانهم توثيق الارتباط العاطفي بطفل يمكن أن يفقدوه في أي لحظة.

كانت المجاعات تقتل الناس بالملايين رغم أن عدد السكان كان أقل بكثير مما هو عليه الآن. الجوع ونقص الطعام لم يعد مشكلة تؤرق البشرية، فقد مكنتنا تكنولوجيا توفير المياه ومكافحة الآفات وزيادة خصوبة التربة من إنتاج ما يكفي لإطعام أكثر من سبعة مليارات من البشر يعيشون على سطح الكوكب. أصبحنا اليوم نشكو من كميات الطعام التي يهدرها الناس في البلاد الغنية، وكذلك الموسرون في البلاد الفقيرة، لكن إهدار الطعام لا يقتل أحدا، وإن كنت أموت من الغيظ في كل مرة أشاهد فيها الطعام المهدور في الفنادق والحفلات ومآدب صفوة الأغنياء.

كلما أمعنت التفكير وجدتني أكثر استعدادا للاستسلام للاعتماد على التكنولوجيا، وأقل تمسكا باستقلالي الذاتي تجاهها. أصبحت أضع القاموس الكبير على المكتب بجانبي، ولا أتمنى أن أستخدمه أبدا.

إعلان