إعلان

فتوَّات الحسينية.. وكفر الطماعين!

فتوَّات الحسينية.. وكفر الطماعين!

د. ياسر ثابت
09:01 م الثلاثاء 05 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يُثير موضوع الفتوَّات والبلطجية حكايات كثيرة في كتاب مصر وأسفاره الضخمة.

ظهر الفتوة بمعناه الحقيقي مع تراخي قَبْضة الدولة العثمانية على مصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، عِندما بدأ المماليك يُعاودون السيْطرة على الأوضاع في البلاد، لتعمَّ الفوضى ويكثُر الهرَج والمرج في أنحاء مصر. وكان هؤلاء المماليك يُكوِّنون أحزابـًا وشِيعـًا تتقاتَل فيما بينها، فضلًا عن التعدي على الممتلكات والأحياء، وعدم الأمن مع غياب القانون والردع.

مِن هُنا بدأت طائفة الفتوَّات تَبرُز في المجتمع، والتي في صحيح الأمر لم تغبْ إلا أنَّها بدأتْ تأخذ مكانتها وشرعيَّتها من الأهالي أنفسهم؛ لحماية الأحياء من الاعتداءات الخارجية، سواءً من المماليك أو غيرهم من اللصوص وقُطَّاع الطرق؛ وذلك لكون هؤلاء الفتوَّات اتَّسموا في تلك الفترة بمكارم الأخلاق والحرص على نُصْرة الضعيف والمظلوم.

بدأ دور هؤلاء الفتوَّات يتجاوز كونهم حُماةً للأحياء والشوارع والحارات إلى اشتراكهم في المواقف الخطيرة التي تمسُّ مصالح الشعب، وفي المواقف الوطنية، وظهر ذلك جليـًّا بالفعل فيما يرويه المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي عن كثرة فرض الضرائب و"الفِردة" والإتاوات على الشعب من قِبل المماليك في أواخر عهدهم قبل قُدوم الحملة الفرنسية على مصر، حتى ضاق الناس بذلك وهجروا أعمالهم.

وللدكتور حسين مؤنس كتابٌ مهم، ربما كان أجمل ما فيه، هو ما تعرَّض له الكاتب بأسلوبه الأدبي الرفيع بشأن الدور البارز الذي لعبه الفتوَّات في التصدي للحملة الفرنسية على مصر عام 1798، وكيف تلاحم هؤلاء الفتوات العظام مع صفوف الشعب المصري في التصدي للفرنسيين، وأظهروا مقاومة باسلة في ثورتَي القاهرة الأولى والثانية.

ويُشير علي مبارك إلى أن نابوليون كان يضيق كثيرًا بالشغب الذي يُثيره هؤلاء الفتوَّات، الذين كان يطلق عليهم لقب "الحشاشين البطالين"، بل إنَّه كان في كثيرٍ من الأحوال وعندما يضيق به الأمر، يُصدر منشوراته إلى طوائف الشعب يُناشدهم فيها بعدم سماع كلام هؤلاء الحشاشين.

وكان بونابرت حينما بلغ بجيوشه منطقة إمبابة في طريقه إلى مصر، استنجد الأمراء المماليك بالعامة من الناس، بعد أن تخاذلتْ جنودهم، فخرج له "أولاد الحسينية" يتقدمهم الفتوَّات، ونازلوا الجيش الفرنسي بعصيِّهم فحصدتْهم مدافعه حصدًا.

ولكن لماذا يتكرر اسم حي الحسينية في تاريخ الفتوَّات؟

كان الحسينية حيـًّا شديد الحساسية نظرًا للتقلُّبات الاقتصادية والسياسية منذ العصر المملوكي العثماني، وأفراده كانوا عسكرَ الأحياء أو عصبَ الأحياء ومعظمهم ممن لا يعملون وصغار الحرفيين، وأطلق عليهم الفتوَّات الجدعان، واشتهروا بالمهارة في الضرب وانقطعوا لحماية من استجار بهم، وكانوا في الغالب أهل مروءة.

وقد تحدَّث الجبرتي عنهم في سياق حديثه عن كفر الطمَّاعين وكفر الزعار، وقال: إن بعض أمراء المماليك يستعينون بهم لحمايتهم ومساندتهم، وقد أطلق على هؤلاء الفتوات "المشاديد"، وعندهم السجن مروءةٌ وشرفٌ ويتفاخرون به، وربما كان هذا سببـًا في ظهور التعبير المصري الشهير "السجن للجدعان".

فتوات الحسينية قفزوا إلى المشهد أيضـًا عندما تظاهرت نساء حي "درب مصطفى" بالقرب من باب الشعرية في آخر عهد المماليك ضد عمال عثمان بك البرديسي المرادي (وسُمِّي البرديسي لأنه تولى كشوفية برديس بقبلي) الذين جاءوا لجمع إتاوات جديدة، وانهلْنَ عليهم ضربـًا بالعصي والمقشات، وسِرْنَ في مظاهرة صاخبة وبأيديهنَّ الدفوف يُغنينَ "إيش تاخد من تفليسي.. يا برديسي".

فقد شاهد فتوات الحسينية نساء "درب مصطفى"، فاتقدت حماستهم وتصدروا هم للأمر، وخرجوا في جموعٍ كبيرة واتجهوا إلى بيت القاضي، وطلبوا منه أن يتدخل عند البرديسي لوقف المظالم والإتاوات التي فرضها على الناس. وبعد تَدَخُّل القاضي وتحذيره من مغبة استمرار تلك السياسات الجائرة، أذعن البرديسي، وأصدر الأمر إلى عماله بأن يكفُّوا عن جمع الضرائب و"الفِردات" التي فرضها على الناس.

وفي عالم الفتوات أسماءٌ كبيرةٌ لها صيتها، تستحق أن نتكلَّم عنها بالتفصيل.

إعلان