إعلان

العام الخمسين بعد النكسة

العام الخمسين بعد النكسة

د. جمال عبد الجواد
08:42 م الجمعة 02 يونيو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كانت أمي قد أرسلتني في صباح ذلك اليوم لشراء احتياجات بسيطة من العلاف القريب. في الطريق شغلت نفسي بقراءة الشعارات التي كتبها شباب الاتحاد الاشتراكي على الجدران التي كانت نظيفة. "عبد الناصر يا حبيب.. الخطوة الجاية في تل أبيب" هكذا كان يقول الشعار المكتوب على حائط مواجه لبيتنا. في طريق العودة للبيت شغلت نفسي، كما تعودت في تلك الأيام، بقراءة المطبوع على القرطاس المصنوع من ورق الجرائد. كان هناك أخبار بدت عظيمة عن أشياء رائعة تحدث.

عندما وصلت إلى البيت كان الراديو يبث بيانات عسكرية عن الحرب التي بدأت. سمعت المذيع المشهور بصوته المميز يزف الأنباء عن طائرات العدو التي تتساقط كالذباب. تغيرت لهجة المذيع ونبرة صوته في اليومين التاليين - هذا ما فهمته من الحوارات التي دارت بين الكبار في الأسرة، وهو ما أثار القلق في النفوس.

خسرنا سلاح الطيران، وخسرنا الجيش، وخسرنا سيناء، وخسرنا الحرب، هذا ما عرفناه بعد ذلك. قدنا العرب إلى الحرب فخسروها معنا. خسر السوريون جيشهم وجولاتهم. بعد خمسين عاما مازال الجولان في قبضة الإسرائيليين، فيما السوريون منشغلون بالحرب الأهلية الدائرة بينهم.

خسر الأردن الضفة الغربية، وخسرت مصر قطاع غزة، وهو كل ما تبقى من فلسطين بعد النكبة. في النكبة راح نصف فلسطين، وفي النكسة راح نصفها الآخر، ومازال الفلسطينيون بعد خمسين عاما يبحثون عن وطن يمارسون فيه الحق في تقرير المصير.

تأسست إسرائيل في النكبة، لكن النكسة كانت أشد وطأة على كل العرب. مساحة الأرض التي فقدناها في النكسة زادت عدة مرات عما كسبته إسرائيل في النكبة. حرب النكبة خسرتها نظم الملوك والإقطاع الرجعي، فحملناهم المسئولية وانتفضنا عليهم. انهزم الثوريون القوميون الناصريون والبعثيون في حرب النكسة، فاحترنا فيمن نحمله المسئولية، وخرجنا نتضامن مع المنهزمين.

لم يحلم العرب بقدر ما حلموا قبل النكسة، ولم يكابدوا الإحباط وخيبة الأمل بقدر ما عانوه في النكسة. هزيمة العرب في نكبة 1948 استفزت فيهم الرغبة في الثورة والثأر، فيما أثارت فيهم نكسة 1967 مشاعر الخذلان والخيبة. عرب ما بعد النكسة يحلمون بحذر، خوفا من الخيبة التي تلي الحلم. عرب ما بعد النكسة لا يتحمسون بسهولة تجنبا للوقوع في خدعة جديدة.

عرب ما بعد النكسة لا يثقون ولا يصدقون، لأن القادة وأهل الحكم والسياسة يخدعون ويكذبون، هكذا علمهم درس النكسة. مساكين قادة بلادنا وطبقتنا السياسية، فلا أحد مستعد لتصديقهم أو منحهم ثقته. الكلام في عالم ما بعد النكسة أصبح فاقدا للمعنى بعد أن كف الناس عن تصديقه. فقط في بلادنا يلجأ السياسيون للأيمان، فيقسم هذا بالله ويقسم ذاك بشرفه، لأن الكلام وحده لم يعد كافيا لنقل المعنى.

لقد أيقظت نكبة 1948 العرب، وزرعت فيهم شحنة أمل وتطلع للمستقبل، فكانت الثورات والانقلابات والأحزاب والنقابات والجمعيات والتيارات الفكرية. نكسة 1967 سحقت في العرب أرواحهم وثقتهم في أنفسهم وفي المستقبل، وما الانهزامية المخيمة سوى نتيجة لما حدث في مثل هذه الأيام قبل خمسين عاما.

إعلان