إعلان

خيالات أشجار الحائط

خيالات أشجار الحائط

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 08 ديسمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم تكن معلومة جديدة، فقد تكررت، وفى كل مرة تبدو من سرعتها وإيجازها شبيهة بتلك الأخبار التي تسمعها ولا تصدقها فورا، إذ يبادر عقلك بنفيها، خاصة إذا جاءت كجملة هامشية غير مقصودة في سياق حديث، لا يتم أبدا مد مساحة الكلام به ليكتمل.

مع الوقت تتكرر مرات ومرات ومن مصادر كثيرة، فتبدو مؤكدة، وتصير مع الوقت حقيقة، بالأحرى ذكرى متبوعة بألم. تسأل: إزاي، فيأتي الرد بسيطا كبديهية: كان بيعدي الشارع.

لاشيء متبقيًا غير صورة وحيدة يبتسم فيها.

ينعش البعض الذاكرة بتفاصيل رحلة قديمة، كان فيها الوحيد الذي لا يلعب الكرة مع أصدقائه أمام موضع السكن، لا يجيدها وفقط يشاهد لكنه لا يشارك، كما لا يستجيب لمحايلات استكمال عدد الفريق بأن يحاول الوقوف كحارس مرمى.

في مثل تلك الأمسيات التي تأتى بعد نهار صعب تهلّ ذكريات ثقيلة بعيدة، تتسلل على مهل وتشكل تواجدها المزعج.

يرد على الهاتف، ويطيل الحوار، ويحدد موعدا ويذهب إلى هناك، مكان خارجي يشكل امتدادا للكافيه به ثلاث مناضد فقط، بينما تبدو كثافة أكبر في الداخل وفق ما يظهر من كثافة الأشخاص الذين يبدون من خلف الزجاج الأمامي الذي يشكل كامل واجهة المكان عدا باب يتوسطه، يقول ربما هو البرد.

يطلب قهوة ويتأمل الشجر المهتز فى مواجهة المكان، برودة متقطعة تزيد مع دخول الليل، تهز فى غير تناسق أفرع وأوراق الشجر فتحولها إلى هيئة شبح يتراقص تمثيلا على الحائط المجاور.

عربات قليلة تمر في الطريق في هذا المكان الذي تم افتتاحه أخيراً، ويتخذ موضعه أسفل عمارة جديدة في الحي البعيد نسبيا عن الزحام.

أخرج الموبايل ونظر، فظهر عدد الرسائل التي لم يطالعها على جروب الواتس آب وبلغ 683 رسالة، وفقط منذ أقل من يوم كامل، كان زملاء قدامى دعوه ثم بدأوا في بناء مجموعة على الواتس آب يتبادلون فيها الذكريات والحكايات والحديث العام.

يكتفي بالنظر السريع كلما أتيح الوقت، يتابع مصادفة مقولة جميلة أو صورة لبعض الزملاء، لكن كثيرين منهم صار لا يعرف صلته بالاسم الذي تحمله الصورة، يُجهد ذاكرته وهو يُركب الاسم مرات، وبعد أن يمل يصمت، يعلل ذلك بأنهم ربما زملاء لم تتوثق الصلة بينهم فقد كان العدد كبيرًا.

يظهر على الرسائل أسماء أخرى لأصدقاء مقربين قدامى بعضهم لايزال مسافرا وبعضهم عاد بعد سفر أو ظهر فجأة، تقريبًا فيما يخص من يعرفهم جيدا لا شيء تغير سوى ملامحهم، يسأل ذاته هل يولد الإنسان جينياً بكل سماته فيبقى جوهرها باقيا عبر الزمن من خلال ما يقوله ويفعله الشخص، معبرا عن وجهة نظر وفكر وتصرف، ثم وفقط تعمل جينات الشكل تأثيرها في تغيير صورته، لم يعرف إجابة لكنه قدر صحة ذلك.

وقف وحرك الكرسي المجاور قليلا مرحبا وبادل التحية بالابتسام لصديقه، وأخذ يتحدث كثيرا عن البرودة الطارئة وشكل الشجر والأضواء التي تظهر من نوافذ مفتوحة في المباني المقابلة، قطع حديثه مجيء عامل الكافيه وهو يضع القهوة والماء ومكعبين من الحلوى على طبق صغير ومضى ليأتي بقهوة أخرى.

دار حديث جديد آخر مختلف تماما عن سلوك الناس في الشارع وعن برنامج منوعات شهير وعن رحلة أخيرة إلى مدينة بعيدة.

فتح شاشة الموبايل ليشاهد صورة جماعية قديمة طرحها الزملاء يبدو فيها شاربه كثيفًا، أمعن النظر فتأكد أنه صار تقريبًا لا يعرف ذلك الشخص القديم بذلك الشارب العريض.

استمع بجدية لرأي قاطع بشأن عدم تميز ألبوم شيرين الجديد، وتحدث هو بيقين ظاهر عن الحضور الفني المدهش لأنغام، لكنه لم يذكر شيئا بشأن أغانيها وحاول أن يستدعى اسم أغنية واحدة حديثة فلم يسعفه سوى مشهد تصوير أغنية قديمة لها مع ممثل تليفزيوني معروف ثم جملة "لسه ناوى ع السفر".

أضاف ضاحكًا: دي الأغنية الوحيدة اللي فاكرها .. ينفع كده؟

أعادا النظر إلى رسائل تتوالى كسيل في مجموعة الأصدقاء ومنها صور تحمل شخصيات أخرى كثيرة .

قال: ماكنتش أعرف إنها توفيت، رد صديقه: تقصد مين!، أشار نحو صورتها، ثم سأل: تعرف إيه حصل، لم يجب، أضاف: أنا بس النهاردة قريت كل الرسائل دي ولقيتهم بيذكروا اسمها كده.

رد صديقه: معلش.

جلست امرأة معها طفلها على المنضدة المجاورة لهما، كانت تنظر إلى الطفل وتكلمه، فيضحك بصوت صاخب جميل وبلا سبب مباشر.

جال في خاطره أنه تمنى دومًا أن يعرف أسماء كل الزهور في العالم، وأين تنمو والمناخ المناسب لزراعتها وأسباب تسميتها وسبب اختلافات ألوانها، وكيف يعبر كل منها عن نفسه عبر رائحته.

كانت موجة البرد العابرة قد مضت، وسكنت كل الشجيرات المجاورة والمواجهة للمكان، حين غادرا ذهب نحو إحدى الشجيرات الساكنة وأخذ يهز فروعها القريبة.

إعلان