إعلان

اليوم العالمي للمرأة: سوريات يكافحن لتأمين الدفء لمنازلهن

01:23 م السبت 09 مارس 2019

لندن (بي بي سي)

في ورشة لتقطيع الأشجار بإحدى ضواحي دمشق الشرقية، فاحت رائحة الخشب المبلل بعد هطول أمطار غزيرة حوّلت أرض المكان لبقع طينية كبيرة تعج بشظايا خشبية متناثرة. بوسط الورشة راحت أم أحمد تباشر عملها وقد ارتدت لثاما يحمي وجهها ورأسها، وثوباً طويلاً يغطي كامل جسدها، وقفازين سميكين يساعدانها على العمل بسهولة وأمان.

بعد النزوح بسبب الحرب، وجدت أم أحمد نفسها مضطرة للعمل في كثير من المهن الشاقة، وربما غير المألوفة للنساء في المجتمع السوري، أحدثها بورشة الأخشاب هذه. فالدخل الشهري الذي يجنيه زوجها من حراسة أحد المباني السكنية لا يكفي لتأمين إيجار المنزل وتكاليف الحياة اليومية، وعلى رأسها اليوم مستلزمات التدفئة.

"الحطب.. كنزنا"

تقضي أم أحمد (45 عاماً) ساعات النهار وهي تحمل قطع خشب كبيرة، لتضعها واحدة تلو الأخرى على آلة النشر لتقطيعها لأجزاء صغيرة للغاية، تسمى نشارة الخشب، وهي مادة تستخدم عادة لفرش الأرض في حظائر الدجاج.

إنه الشهر الثاني لها في المكان الذي يديره رجل ستيني مع ولديه، ويعمل فيه ثلاث نساء إلى جانب أكثر من 15 رجلا وشابا على مدار الساعة.

"الضرورة أولاً وأخيراً هي ما دفعتني للعمل هنا. بدنا نعيش. بدنا ناكل ونتدفى"، تقول أم أحمد دون أن تتوقف عن العمل للحظة، ودون أن يمنعها طقس مارس شديد البرودة والأمطار المتساقطة بغزارة من متابعة مهامها.

تجني أم أحمد لقاء عملها 60 ألف ليرة سورية شهرياً (120 دولاراً)، ومن حسن حظها، كما تقول، أنها تستطيع الحصول من الورشة على كميات جيدة من الحطب تستخدمها للطبخ والتدفئة بواسطة مدفأة شائعة الاستعمال في سوريا، تسمى محليا (صوبيا حطب).

"إنه شتاء صعب للغاية. لا نحلم بشراء الوقود أو الغاز، والكهرباء مقطوعة معظم ساعات النهار. الحطب بالنسبة لنا هو الكنز الذي لا غنى عنه".

قبل ثلاث سنوات، وهرباً من الموت، غادرت أم أحمد مع زوجها الستيني وابنتها التي لم تكمل حينها أعوامها العشرة، مدينة منبج بريف حلب، واستقر بهم المطاف في إحدى ضواحي دمشق. وعائلة أم أحمد واحدة من آلاف العائلات السورية التي أجبرتها الحرب على النزوح، حيث تقدر إحصائيات الأمم المتحدة وجود حوالي 6 ملايين نازح داخل البلاد.

شتاء بارد في سوريا

يعيش السوريون هذا العام شتاء يعتقدون أنه الأقسى منذ سنوات طويلة؛ حيث يغيب الدفء عن معظم المنازل ويغدو الحصول عليه أشبه برفاهية غير متاحة، مع انخفاض درجات الحرارة في بعض المناطق إلى ما دون الصفر، وارتفاع تكاليف التدفئة بشكل غير مسبوق في معظم المدن السورية.

الجميع متساو بالشعور بالبرد، مع وجود بعض الفروق طبعاً بين مدينة وأخرى، وبين طبقة وأخرى.

فالحرب المستمرة منذ حوالي ثماني سنوات تسببت في أضرار فادحة في الاقتصاد والبنية التحتية، ودفعت أكثر من ثلثي السكان إلى ما دون خط الفقر. وتشير إحصائيات رسمية، صدرت الشهر الماضي، إلى أن كل أسرة سورية تحتاج إلى 325 ألف ليرة شهرياً (650 دولاراً) كمعدل وسطي للإنفاق، في حين لا يزيد متوسط الدخل الشهري للعائلة في البلاد عن 200 دولار.

الحرب دمّرت أيضاً العديد من مصادر الطاقة في سوريا. وشددت العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد من وطأة هذا الدمار؛ فارتفعت أسعار الوقود المستخدم للتدفئة في المنازل عدة أضعاف وباتت الكميات المتاحة منه محدودة للغاية، وكذلك الأمر بالنسبة لأسطوانات الغاز التي يمكن استخدامها للتدفئة وللطبخ، أما الكهرباء فازدادت ساعات تقنينها في معظم أرجاء البلاد. وبعض البيوت حاليا تقطع عنها الكهرباء نحو 12 ساعة يوميا على الأقل في كثير من مناطق محافظة ريف دمشق، وكثير من المدن الأخرى، دون وجود بدائل للتدفئة.

يعني ذلك بالنسبة لآلاف السوريات، مثل أم أحمد، ضرورة العمل لتأمين معيشة عائلاتهن، والمكافحة للحصول على أدنى حد ممكن من الدفء في منازلهنّ، وتحمّل أعباء كانت عادة من نصيب الرجال.

في الورشة نفسها، تعمل أم حسين، وهي امرأة ثلاثينية، على آلة أخرى لتقطيع الأخشاب.

كما هو حال أم أحمد، تحصل أم حسين على دخل شهري وتجلب بعض الحطب لمنزلها الذي تعيش فيه مع زوجها المريض، بعد نزوحهما من ريف حلب قبل عدة أعوام.

"لا أملك خياراً آخر. أعمل كما الرجال لأعيل نفسي وزوجي، وفي داخلي قوة تكفي لأتحمل قسوة الحياة وأحصل في نهاية اليوم على بعض الطعام والدفء"، تقول صائحة كي يُسمع صوتها وسط هدير الآلة الضخمة.

رحلة البحث عن أسطوانة غاز

في الطرف الآخر من العاصمة السورية، وتحديداً في بلدة جديدة الفضل بريف المدينة الغربي، لم تفقد ميس (27 عاماً) معيلها، لكنها اليوم المسؤولة الأولى عن تدبير كافة احتياجات المنزل، مع عمل زوجها في أكثر من مكان منذ ساعات الصباح الباكر وحتى حلول المساء.

أمضت ميس الأسبوع الماضي بأكمله وهي تحاول الحصول على أسطوانة من الغاز دون جدوى.

"أقف يومياً في الطابور المخصص لتوزيع الغاز ومعظمه من النساء، لتنتهي رحلتي كل مرة بالفشل. أحياناً يخبروننا بعدم وصول سيارة التوزيع، ومرات أخرى تأتي السيارة وفيها كميات أقل من عدد المنتظرين"، هكذا تحدثت ميس عن رحلتها اليومية الشاقّة.

لا خيار لدى ميس سوى العودة في اليوم التالي إلى الطابور، فزوجها لا يملك الوقت الكافي لتأمين الغاز أو الوقود، ومن دونهما لا دفء في المنزل على الإطلاق، وهو أمر ضروري خاصة مع وجود ولدين لا زالا في مرحلة الدراسة الابتدائية.

توضح ميس "شراء الغاز أو الوقود بالسعر الرسمي يتطلب الانتظار، أو دفع أسعار مضاعفة في السوق السوداء. أما الكهرباء، وهي الحل الأخير للتدفئة، بالكاد نحصل عليها بضع ساعات في اليوم مع ازدياد ساعات التقنين".

"مستقبل أفضل"

تعتقد ميس أن حالها اليوم كحال معظم النساء السوريات، اللواتي يخضن غمار معارك يومية لم تكن مألوفة لهنّ قبل الحرب.

"من كان يتوقع أن نمضي، أنا وجارتي وهي حامل بشهرها التاسع، أيامنا ونحن نكافح للحصول على أسطوانة غاز، أو بعض الوقود، أو القليل من المياه الصالحة للاستخدام والشرب؟"، تتساءل بنبرة متهكمة.

كل ما تتمناه اليوم هو أن توفّر حياة جيدة لولديها، ويعني ذلك تأمين الدفء والتعليم والطعام وغيرها من ضروريات الحياة، فهي تعتبر أنها ظُلمت بسبب زواجها المبكر، كما درجت العادة في محيطها، وعدم إكمال تعليمها، وتحلم بأن يكون لأطفالها مستقبل أفضل مما حظيت هي به.

أما أم أحمد، ومع مضي النهار واقتراب موعد انتهاء عملها، تزيح طرف اللثام عن وجهها، وتنفض نشارة الخشب التي علقت بثيابها.

سألتها عن مدى معرفتها بيوم المرأة العالمي، المصادف 8 مارس.

وبعينين ضاحكتين أجابت باستغراب "يوم للمرأة؟ لم أسمع به من قبل. لا أملك سوى أن أتمنى أن تكون حياتنا أقل صعوبة، ولو بقليل".

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: