24 مارس 2020

إعلان حظر تحرك ليلي للمواطنين وإغلاق كامل للمطاعم والمقاهي

بين عشرات الجالسين على الكورنيش، والمحتفلين بعيد الأضحى في أحد أيَّامه مطلع أغسطس الماضي، كان «رجب محمد» بائع الشاي والقهوة، يتحرَّك بخفَّة ونشاط لتلبية طلبات زبائنه، ورغم قِلَّة عددهم، فإنها أفضلُ من غيابهم الذي استمرَّ لنحو 100 يومٍ، يعتبرها الرجل الأصعب في حياته. هذه المقاعد في أيام خَلت، كان يتبادل عليها المئات من المساء حتى الصباح، لولا فيروسٌ غامض زار البلاد، فأرَّق أهلها، وهدَّد قوتهم، مثلما فعل مع رجب.

صباح الـ24 من مارس الماضي، كان رجب يرتدي ملابسه استعداداً للذهاب إلى عمله، حين استمع إلى رئيس الوزراء مصطفى مدبولي وهو يتحدث عن إجراءات جديدة لمواجهة فيروس «كورونا» المستجد، مثل حظر تحرك مؤقت، وإغلاق المقاهي لمدة أسبوعين، وحزمة إجراءات أخرى لم ينتبه لها بائع الشاي والحمص على كورنيش النيل، فالقراران كانا كافيين لتغيير طبيعة عمله.

رجب أحد العاملين غير المنتظمين في مصر، المقدَّر عددهم بنحو 12 مليون شخص وفق المتحدث باسم وزارة القوى العاملة. هم الأسرع تأثراً بإجراءات مكافحة مرض «كوفيد-19»، وكان مشهد الشوارع شبه الخالية حوله وهو في طريقه من منزله بمنطقة «إمبابة» إلى الكورنيش يقلقه، فاختفاء الناس من الشوارع يعني غيابهم عن محل عمله، ولأن «يوميته» ترتبط بأعداد الزبائن فإنها حتماً ستتأثر.

«رئيس الوزراء قال القهاوي تقفل الساعة سبعة فقلنا إحنا زيهم، لكنه جه النهاردة وقال تقفل خالص، فتعتبر الليلة دي آخر شغل لينا قبل الحظر» يحكي الرجل، وهو يصبُّ الشاي في أكوابٍ كارتونية، بدلاً من الزجاجية، مرتدياً قناعاً طبياً، وبيده سيجارة مشتعلة، قبل أن يُعقِّم الكراسي من حوله بمطهرٍ كحولِّي، لطمأنة الزبائن الذين صاروا يتحركون بقفَّازات ومعقِّمات لليد. ورغم عمره الذي تجاوز الـ64 عاماً، وخطورة خروجه من المنزل، إلا أنه لا يملك رفاهية البقاء فيه، أو تطبيق التباعد الاجتماعي: «عندي 3 أولاد، اتنين منهم لسة بيدرسوا في كليات، ولو الشغل حلو ممكن يوميتي تبقى 170، وحش ممكن تنزل أقل من 100، وده قبل كورونا، دلوقتي أسوأ».

عرف رجب من رفاقه، ممن يعملون في محيط الكورنيش بمهن مختلفة، عن المنحة الاستثنائية التي خصَّصتها وزارة القوى العاملة، وقدرها 500 جنيه، تصرف للمسجلين من العاملين غير المنتظمين رسمياً، البالغ عددهم 120 ألفاً، بينما أتاحت للباقين تسجيل بياناتهم من خلال موقعها الإلكتروني، لكن رجب لم يهتم، فالمبلغ في رأيه قليل. لكنه غيَّر رأيه، حين قررت الدولة صرف المبلغ لثلاثة أشهر، وهي وفقاً لتصريحاتٍ رسمية ضمن 100 مليار جنيه خصَّصتها الدولة لمواجهة تداعيات فيروس «كورونا». قدم 4.4 ملايين مواطن بياناتهم للحصول على المنحة، كان المستحقون منهم لها 1.6 مليون مواطن، ورجب لم يكن أحدهم، فقد أغلق الموقع باب التسجيل قبل أن يُدون بياناته. لكنه سارع إلى التسجيل بعد إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي، في نهاية سبتمبر الماضي، عن استكمال صرف المنحة حتى نهاية العام.

كان الأمر مختلفاً للعاملين في القطاع الحكومي والخاص، وافقت الحكومة على خصم 1% من أجور الموظفين في الدولة، من أول يوليو الماضي ولمدة 12 شهراّ، للمساهمة في تمويل بعض الآثار الناجمة عن «كورونا». قبل ذلك وفي 16 مارس الماضي، قررت الحكومة تخفيض عدد العاملين في المصالح الحكومية، وطُبِّق التخفيض على القطاع الخاص أُسوة بالجهاز الحكومي، وكانت بعض الأماكن تقيس درجات حرارة العاملين بها قبل دخولهم محل العمل، وتتيح لآخرين العمل من المنزل، دون تأثُّر رواتبهم، بينما كان لتطبيق قرارات حظر التحرك وإغلاق عدد من المنشآت التي أعلن عنها رئيس مجلس الوزراء، في الـ25 من مارس الماضي أثرٌ على ما يتقاضاه رجب: «ومش محوش حاجة أصرف منها، ده أنا متداين، ومش موظف حكومة ولا خاص ضامن مرتبه آخر الشهر».

ينظر رجب إلى النيل من خلفه، وهو يشرب كوب شاي، فإذا بالأنوار التي كانت تزيِّن مراكبه مظلمة، وبرج القاهرة بلا إضاءة، والكورنيش بلا متجولين، أو أحبَّة. في الأيام التالية تدهور عمله، فساعات العمل القليلة محاطةٌ بقلقه من رجال الأمن الذين يطاردون المخالفين، ومشوبةٌ بخوفه من أثر غياب المواطنين عن الكورنيش خشية الوباء: «فبنزل الشغل بس اليومية اتأثرت، وفي أيام مبنعرفش نشتغل، ولي أربعة صحابي اتقبض عليهم ودفعوا غرامات عشان مخالفين قرارات الإغلاق والحظر» قالها بينما كان صوت المطرب محمد عبد الوهاب قادما من راديو صغير «إمتى الزمان يسمح يا جميل وأسهر معاك على شط النيل».

استخدم المؤشر لقراءة القصة

عاد السَّهر من جديد على شاطئ النيل، بعدما قررت الحكومة في الـ27 من يونيو الماضي إلغاء حظر التحرك، ليخرج الناس في الليالي الصَّيفية يبحثون عن نسمة هواء باردة على الكورنيش، ويعود لرجب بعض زبائنه، وبعض رزقه أيضاً، في ظل تخوُّف البعض من الخروج من المنازل في تلك الفترة، التي ما تزال الإصابات فيها بالمئات يومياً. خوفٌ تبددَّ قليلاً في مطلع أغسطس الماضي، الذي سبقه انخفاضٌ في مؤشر الإصابات بالفيروس يومياً، حتى أن محافظتي البحر الأحمر وجنوب سيناء، سجلتا لأول مرة منذ الإعلان عن ظهور «كورونا» في مصر، «صفر إصابات» في أواخر يوليو الماضي: «في عيد الفطر مكنش في ناس بتحتفل هنا إلا قليل أوي، لكن في عيد الأضحى الوضع مختلف وفي رزق» يحكي رجب.

تقترب الساعة من الـ12 منتصف الليل، فيخرج الناس من أماكن سهرهم وأعمالهم، ويتَّجهون إلى المواصلات العامة للعودة إلى منازلهم، وهي التي لم تكن لتنتظرهم كل تلك الساعات في الأيام الماضية، بسبب فرض حظر التجوُّل المسائي، ووقف حركة وسائل النقل خلالها، لولا ذلك التخفيف الذي أجرته الحكومة.