ليلة الهروب الكبير من دمشق.. كيف انهار نظام الأسد في ساعات؟
كتب : محمد جعفر
بشار الأسد
ترجمة- محمد جعفر:
احتشد عشرات الأشخاص في الظلام خارج القسم العسكري من مطار دمشق الدولي، بعد منتصف ليل الثامن من ديسمبر 2024 بقليل، حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم ومتعلقاتهم الشخصية، وصعدوا بها على عجل إلى طائرة صغيرة تابعة للخطوط الجوية السورية، وكان هؤلاء حتى وقت قريب هم الصفوة العليا داخل واحد من أكثر الأنظمة صرامة في العالم، لكنّ المشهد تبدّل كلياً بعد السقوط المفاجئ للرئيس السابق بشار الأسد وهروبه من البلاد، ليصبحوا مجرد فارّين يبحثون عن مخرج لأنفسهم وعائلاتهم.
من بين الركاب كان قحطان خليل، مدير استخبارات سلاح الجو، المتهم بالمسؤولية عن واحدة من أبشع المجازر التي شهدتها الحرب الأهلية السورية المستمرة منذ ثلاثة عشر عاماً، كما ضمّت الرحلة علي أيوب وعلي عباس، وهما وزيرا دفاع سابقان يخضعان لعقوبات دولية بسبب تورطهما في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وكان أيضاً على متن الطائرة عبد الكريم إبراهيم، رئيس الأركان، المتهم بتسهيل عمليات التعذيب والعنف الجنسي ضد المدنيين.
تفاصيل وجود هؤلاء على الطائرة روتها صحيفة نيويورك تايمز نقلاً عن أحد الركاب ومسؤولين سابقين مطلعين على الواقعة، ومع تقدم الهجوم الخاطف لفصائل المعارضة نحو العاصمة، جاء فرار الأسد بمثابة صدمة مدوية لدائرته الضيقة، ورمزاً لانهيار نظامه المفاجئ،
اقتدى كبار رجاله به سريعاً؛ فخلال ساعات قليلة لم تقتصر الكارثة على سقوط النظام، بل اختفت رموزه بالكامل، بعضهم فرّ جوّاً، وآخرون هربوا إلى الساحل ليستقلوا زوارق فاخرة، بينما حاول آخرون النجاة بسياراتهم عبر حواجز المعارضة التي لم تتعرف عليهم، أما بعض المقربين من الأسد فاختبأوا داخل السفارة الروسية التي ساعدت في تهريبهم إلى موسكو، الحليف الأبرز للنظام السوري.
وبينما كانت سوريا تتحول إلى أنقاض، رأى الآلاف ممن فقدوا أحبّاءهم أو عانوا التعذيب والتهجير أن بلادهم أصبحت مسرحاً لجريمة هائلة، بينما اختفى الجناة الرئيسيون جماعياً.
وبعد مرور عشرة أشهر على سقوط النظام، تجد سوريا نفسها أمام تحدٍّ مزدوج: إعادة الإعمار من جهة، وملاحقة المسؤولين عن بعضٍ من أسوأ الجرائم في القرن الحادي والعشرين من جهة أخرى.
تعمل الحكومة السورية الجديدة ومقاتلو المعارضة السابقون على تعقّب الفارين باستخدام المخبرين، والاختراق الإلكتروني للهواتف والحواسيب، وجمع الأدلة من المقار المهجورة. وفي الوقت نفسه، يعكف المدّعون في أوروبا والولايات المتحدة على إعداد ملفات وملاحقات قانونية، فيما توثّق منظمات المجتمع المدني السورية ومحقّقو الأمم المتحدة الشهادات بانتظار لحظة تحقيق العدالة.
غير أن المطلوبين هم من أكثر الأشخاص غموضاً في العالم؛ فقد مارسوا سلطة مطلقة لعقود، بينما بقيت تفاصيلهم الشخصية مجهولة أسماؤهم الحقيقية وأعمارهم وصورهم، هذا الغموض أدى مراراً إلى أخطاء في قوائم العقوبات والتقارير الإعلامية، ما أتاح لعدد من كبار مسؤولي النظام الإفلات من الملاحقة في سوريا وأوروبا.
على مدى أشهر، حاول فريق تحقيق من نيويورك تايمز سدّ هذه الثغرات، فجمع معلومات عن55 شخصية من كبار مسؤولي النظام السابقين المدرجين على قوائم العقوبات الدولية، لتوثيق أدوارهم في أكثر فصول الحرب دموية، واعتمد التحقيق على تتبّع الآثار الرقمية، وفحص حسابات أفراد عائلاتهم على وسائل التواصل، والبحث في عقارات مهجورة عن فواتير وبطاقات قديمة، كما أجرى الصحافيون مقابلات مع عشرات المسؤولين السابقين، ومحامين مختصين بحقوق الإنسان، ومسؤولين أوروبيين، وأعضاء في الحكومة السورية الجديدة، زاروا كذلك عشرات الفيلات والمقار المهجورة لإعادة رسم مسارات الهروب.
ورغم الجهود، لا يزال مكان كثير من هؤلاء غامضاً. لكنّ مصائر من تم تحديدهم تنوعت: فالرئيس المخلوع بشار الأسد يقيم حالياً في روسيا، وقد قطع علاقاته بمعظم مقربيه السابقين، بينما يعيش شقيقه ماهر الأسد حياة منفى مرفّهة في موسكو إلى جانب قادة عسكريين سابقين مثل جمال يونس.
في المقابل، يقيم ضباط آخرون كـ غياث دلّا في لبنان، ويُعتقد أنهم يخططون لعمليات تخريب بالتنسيق مع سهيل الحسن وكمال الحسن من موسكو، وفق رسائل نصية حصلت عليها الصحيفة من ضباط منشقين.
وتشير مصادر في الحكومة السورية الجديدة إلى أن بعض المسؤولين عقدوا صفقات مشبوهة للبقاء داخل البلاد، فيما اكتشف فريق الصحيفة أن عمرو الأرمنازي، المشرف على برنامج الأسلحة الكيميائية، ما زال يقيم في منزله بدمشق، وبحسب الصحيفة فإن تتبع هذا العدد الكبير يمثل تحدياً هائلاً، في ظل تعقيدات الشبكات المالية وغياب التنسيق الدولي، وقد أكد موظفون سابقون أن بعض كبار المسؤولين أصدروا جوازات سفر حقيقية بأسماء مزيفة، ما مكنهم من شراء جوازات إضافية من دول في الكاريبي باستخدام تلك الهويات.
يقول مازن درويش، مدير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير في باريس: "كثير منهم اشتروا هويات جديدة عبر برامج الجنسية مقابل الاستثمار أو عبر مبالغ ضخمة. لديهم الوسائل المالية التي تتيح لهم الحركة بحرية والاختفاء عن الأنظار."
تفاصيل ليلة الهروب
بدأت الموجة الكبرى للفرار في الساعات الأخيرة من يوم 7 ديسمبر 2024، حين أدرك كبار مساعدي الأسد فجأة أن الرئيس اختفى.
لساعات، كانوا يتلقّون اتصالات مطمئنة تفيد بأنه ما زال في القصر يناقش خطة روسية إيرانية لصدّ الهجوم، لكن الخطة لم تُنفّذ أبداً، ولم يظهر الأسد بعدها.
وبحسب ثلاثة مسؤولين سابقين، تتبّع مساعدوه أثره إلى منزله، حيث أخبرهم الحرس أن الروس نقلوه مع ابنه ومساعده الشخصي ومستشارين ماليين في قافلة مكوّنة من ثلاث سيارات إلى قاعدة حميميم، استعداداً للرحيل إلى روسيا.
عندما انتشرت الأخبار، دبّ الذعر في صفوف المسؤولين. اتصل أحد كبار مساعديه بعائلته قائلاً فقط: "لقد رحل"، توجه مع أسرته إلى وزارة الدفاع في ساحة الأمويين، حيث اجتمع عدد من ضباط الأمن الكبار، بينهم قحطان خليل الذي نظّم رحلة خاصة إلى "حميميم".
أقلعت الطائرة الصغيرة ياك-40 من مطار دمشق نحو الساعة 1:30 فجراً يوم 8 ديسمبر، واستغرقت الرحلة نصف ساعة بدت لهم دهراً، صور الأقمار الصناعية أكدت الرواية، إذ ظهرت الطائرة في دمشق قبل أيام ثم في "حميميم" في الليلة نفسها، وفي مكان آخر، كان ماهر الأسد، قائد "الفرقة الرابعة" سيئة السمعة، يجهّز هروبه الخاص، فاصطحب رجلي أعمال مقربين منه إلى المطار ليستقلوا طائرته الخاصة.
انهيار الأجهزة الأمنية
داخل المجمع الأمني جنوب غربي دمشق، بقي نحو 3 آلاف عنصر من الاستخبارات العامة في حالة استنفار، غير مدركين أن قادتهم هربوا، كان على رأسهم حسام لوقا، أحد أبرز رموز القمع، المعروف بولائه المطلق للأسد، وتلقى الضباط أوامر بالاستعداد لهجوم مضاد لم يُنفّذ أبداً، ثم اختفى لوقا عند الثانية فجراً بعد أن استولى على نحو 1.36 مليون دولار من خزنة مكتبه، ويُعتقد أنه وصل إلى روسيا لاحقاً.
وفي المبنى نفسه، فرّ كمال الحسن، رئيس الاستخبارات العسكرية، حاملاً قرصاً صلباً وأموالاً من مكتبه، أصيب خلال اشتباك أثناء خروجه من ضاحية "قرى الأسد"، ثم لجأ إلى السفارة الروسية التي هرّبته إلى موسكو، أما علي مملوك، مدير الأمن الوطني المتقاعد والعقل المدبّر لجهاز القمع لعقود، فنجا من كمين قرب دمشق، وفرّ بدوره إلى السفارة الروسية التي نقلته إلى "حميميم" ثم إلى روسيا.
مصائر غامضة وعدالة مؤجلة
ورغم تفاهم غير معلن بين بعض فصائل المعارضة لغضّ الطرف عن الفارين نحو الساحل السوري، فإن هذا التسامح لم يشمل شخصيات مثل اللواء بسام الحسن، المتهم بالإشراف على الهجمات الكيميائية واختطاف الصحافي الأمريكي أوستن تايس، مع ذلك، تمكن من الهرب فجر الثامن من ديسمبر، برفقة عائلته في ثلاث سيارات، لتفادي القبض على الجميع في حال وقوع كمين.
وعندما أوقفت المعارضة السيارة الأولى قرب حمص، أنزلت زوجته وابنته دون أن تعلم أن الحسن نفسه في السيارة التالية.
بفضل هويته المزيفة التي ظل يستخدمها حتى في الوثائق الغربية، لم يتعرف عليه أحد. تشير المعلومات إلى أنه وصل إلى لبنان ثم إيران بمساعدة مسؤولين إيرانيين، قبل أن يعود إلى بيروت لاحقاً ضمن صفقة مع الاستخبارات الأميركية، يعيش الآن حياة مرفهة ويتردد على المقاهي والمطاعم، لكنه رفض التحدث للصحيفة عند الاتصال به.
عدالة بعيدة المنال
وأنهت الصحيفة تحقيقها بقولها: بالنسبة لعشرات الآلاف من السوريين الذين فقدوا أحبّاءهم أو تعرّضوا للتعذيب والسجن، تبدو العدالة حلماً بعيداً، ويبقى السؤال المطروح: هل تمتلك الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع الإرادة والقدرة على ملاحقة كبار مجرمي الحرب من عهد الأسد؟، خصوصاً أن ذلك قد يفتح الباب أمام مساءلة بعض رموزها أيضاً، ومع استمرار الانقسام الدولي حول الملف السوري، لا تبدو في الأفق أي محكمة دولية أو آلية عدالة شاملة قريباً.