إعلان

من هي "أمنا الغولة" التي ألهمت تمائم الحماية في الموروث الشعبي؟

12:25 م الجمعة 29 أكتوبر 2021

تعبيرية

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

(بي بي سي):

مع اقتراب موسم هالوين، يكثر الحديث عن الأشباح، والمقابر، والوحوش، وغيرها من الشخصيات التي تبث الرعب في النفوس.

من أشهر تلك الشخصيات في موروثنا العربي والإسلامي، شخصية الغولة، الجاهزة دوماً لخطف الأطفال أو التهامهم.

قصة الغولة من الأساطير الشائعة جداً، ولكن قلة يعرفون ارتباطها بموروث آخر، وهو رموز الحماية من الحسد و"العين"، مثل "الخرزة الزرقاء" و"الكف" أو "الخمسة" أو "يد فاطمة".

لطالما كانت هذه الرموز حاضرة في مناسبات الزواج والولادة وغيرها، وفي السنوات الأخيرة، باتت من القطع الطاغية في عالم الأزياء والمجوهرات.

نجدها مطبوعة على القمصان والحقائب، وفي كل أشكال الحلي سواء المجوهرات الثمينة، أو الأقراط والأساور البلاستيكية الرائجة بين المراهقين.

فنانون ومشاهير كثر يرتدون خواتم أو أساور تحمل علامة العين، من بينهم مثلاً المخرج الأمريكي سبايك لي الذي لا تفارق قلادة العين رقبته في مناسبات سينمائية عديدة.

من بين مصممات المجوهرات العربيات، اتخذت المصممة الأردنية ناديا دجاني من العين موضوعاً في أعمالها.

تحدثنا دجاني التي كبرت في لندن، عن أول ما لاحظته عند انتقالها للعيش في الأردن عام 2003. "كان الجميع يرتدون العين أو الكف، بشكل أو بآخر، رجالاً ونساءً، من مختلف الديانات".

تقول دجاني إن هذا التقليد "بدأ في مصر القديمة، مع يد إيزيس، وعين حورس، وتغيّر معناه عبر السنين". وتتابع: "حين تذهبين إلى خيمة بدوية، تجدين أنهم يربطون العين والكف في أطرافها، وذلك ما رأيته في جنوب إفريقيا. أينما ذهبت في سفراتي أجدها، لا أعرف امرأة من المغرب إلى الهند لا ترتديها".

حالياً تعمل مصانع صينية على إصدار العين بطبعات وألوان ونقشات مختلفة، لكن بالنسبة لناديا دجاني الأمر مختلف، إذ أنها لا تتبع موضة، بل يعدّ الحفاظ على صناعة هذه الزخارف التقليدية، على يد حرفيات أردنيات، أحد أهدافها.

تقاليد صناعة العين كحرفة تقليدية، رائجة أيضاً في تركيا التي رشحت حرفة صناعة "النظر" من الزجاج، لتكون ضمن لائحة اليونيسكو للتراث العالمي. يندر أن يذهب سائح إلى اسطنبول، ويعود من دون عين زرقاء تعلق على جدار المنزل.

خلال جائحة كوفيد -19 ازدهرت مبيعات متاجر عين الحسد على الإنترنت، ومن بينها متجر "إنجوي اسطنبول" التركي.

يخبرنا هاكان البيرق من المتجر، أن البضائع التي يبيعونها تأتي من أصحاب المشاغل والحرفيين التقليديين في تركيا، ومعظمهم في غرب الأناضول.

يعمل هؤلاء في نفخ الزجاج داخل أفران خاصة، و"يطهون" الزجاج الأزرق لتكون كلّ قطعة فريدة من نوعها.

يقول هاكان البيرق: "لدينا زبائن من جميع أنحاء العالم، وخصوصاً من الولايات المتحدة. لدينا زبائن عرب أيضاً، ولكن بعضهم محافظ جداً بخصوص عين الحسد". الإيمان بالغيب ودرء قوى الشر من المفاهيم المنافية للمعتقدات الدينية، لذلك نجد من يفضلون استبدال آية الكرسي مثلاً برموز العين الزرقاء أو الكف.

تزيد مبيعات متجر "إنجوي اسطنبول" في فترات الأعياد والعطل السنوية، وتعد الأساور والقطع التي تعلق على الجدران من أكثر البضائع المطلوبة .

صحيح أن المتجر ينشط افتراضياً، لكن فترات الحجر خلال تفشي وباء كوفيد - 19، كانت صعبة، "لأن الحرفيين والمشاغل اضطروا للتوقف عن العمل"، بحسب هاكان.

حسناً، قد تسألون ما علاقة كلّ هذا بالغولة؟ وما سرّ العين الزرقاء أو الكفّ، وما منشأها، وما الذي بقي في عصرنا هذا من استخداماتها الأصلية عبر التاريخ؟

يمكن رصد نماذج ارتبطت برمز الكف أو العين، في ديانات وفلسفات وحضارات مختلفة، كالجاينية (جاين دارما) والهندوسية والمصرية القديمة والبابلية والآشورية، واليونانية، والرومانية، وغيرها. فمنهم من رأى في اليد المرفوعة رمزا لـ "كف" البلاء ودرء شر مرتقب، ومنهم من رأى فيها رمزاً لاستجداء القوة، والبركة، والحماية، والخير.

ويُعرف هذا الرمز باسم "يد مريم" نسبة إلى أخت موسى في اليهودية ومريم الأم، والدة يسوع المسيح، في المسيحية، كما يعرف بـ "يد فاطمة" نسبة لابنة النبي محمد في الإسلام. أما كلمة "خمسة" فارتبطت بالأهمية الرمزية لهذا الرقم لدى العديد من الفلسفات والأديان المختلفة، بما في ذلك الأصابع الخمسة المتصلة بـ "الشكرات"، والحواس الخمس، وأركان الإسلام الخمسة. كما ربطت كلمة "خمسة" بآيات سورة الفلق الخمس والتي يستعاذ بها من الحسد.

ربما تتجسد بعض الأسباب التي ساهمت في ربط هذا الرمز بالحماية من "العين" بالاعتقاد القديم - والذي لا يزال سائداً في مجتمعاتنا حتى اليوم - بأن عين الإنسان قادرة على بث اشعاعات أو ذبذبات تسبّب الأذى إذا ما أطالت النظر على شخص أو شيء معين.

كما يتوافق هذا المفهوم مع الاعتقاد المغلوط بأن لدى أصحاب العيون الزرقاء قدرة على بث إشعاعات ضارة، الأمر الذي أشار إليه بلوتارخ عند وصفه لأشخاص "يعيشون جنوب البحر المتوسط يتميزون بقدرة خاصة على إلحاق الأذى بسبب زرقة عيونهم".

ويشير بعض علماء الآثار إلى أن الخرزة الزرقاء ارتبطت بالثقافة الفينيقية كرمز لمقاومة الغزو الروماني. بحسب الرسومات المكتشفة، لم تنحت الخرزة على شكل كف، بل على شكل دائرة صغيرة تخرج منها خطوط بيضاء، ترمز إلى الآلهة "تانيت" والتي ارتبطت بالخصوبة والأمومة والنماء. الأمر الذي قد يفسر سبب الاستجداء بها عند طلب الغيث في أنشودات فلكلورية متنوعة منها الأنشودة المغربية "أمك طنقو/ تنقو" والتي يتغنى بها الأطفال حتى يومنا هذا "أمك طانقو يا نساء طلبت ربي عالشتاء".

ومع امتداد الأديان الإبراهيمية، انحسر الدور القديم للآلهة في المنطقة، فمنها من اختفى كلياً ومنها من بقي له أثر بسيط انعكس في حكايات وأناشيد فلكلورية، ومنها من أصبح يشغل دوراً سلبياً، يعاكس في الكثير من الأحيان دوره السابق.

وبذلك أصبحت بعض الآلهة التي ارتبطت بالخصوبة مثلاً، تذكر كأرواح منبوذة تتسبب بقتل الأطفال و"تعطيل الزواج".

ولا تزال هذه الصفات تتردد - وإن بأثر بسيط - عند ذكر بعض الشخصيات الشهيرة في تراثنا الفلكلوري وحكاياتنا المتوارثة، أهمها "النداهة" و"التابعة" و"أم الصبيان" أو "أمنا الغولة".

فلا تخلو حكايا الجدات من قصص الغولة التي ارتبطت بمخيلة معظم أطفال العالم العربي وجنوب إفريقيا. ودوماً ما كانت هذه الحكايا تصحب قصص ما قبل النوم، حين تسرد الأم أو الجدة قصة الغولة التي كانت تسكن مغارة غامضة مثلاً، لتتسلل إلى مخادع الأطفال وتخطفهم من أحضان أمهاتهم. يخاف الطفل وقتها ويعد أمه أو جدته بأن "يسمع الكلام" خوفاً من بطش الغولة.

حل "بسيط" لبعض الأهل، لكنه ثري في مكنونه الثقافي، إذ يُعتقد أن هذه الشخصية مشتقة بالفعل من أساطير بلاد ما بين النهرين، نقلت من نصوص قديمة، كملحمة جلجامش مثلاً، لتشغل حيزاً كبيراً من المخزون الفولكلوري، أبرزها أسطورة "ليليث" أو كما تعرف في الحكايا العربية بـ"الغولة".

ويقارن الباحث والمحلل النفسي السويسري سيغموند هورويتز قصة ليليث بأساطير ذات أصول بابلية وآشورية، ويشير إلى ترجمات تربط بين اسم ليليث بـ كلمة "غول" و "جن"، مؤكداً بأن هذه الكلمات كانت حاضرة جنباً إلى جنب مع اسم ليليث في بعض النصوص الآرامية.

وتذكر ليليث في بعض ترجمات سفر أشعياء في الكتاب المقدس، حيث ترد رواية أن الله خلق آدم وخلق له زوجة متساوية معه. لكن زوجة آدم الأولى رفضت الانصياع له. حينها خُيرت بين الانصياع وبين الطرد من الجنة، فاختارت ألا تنصاع.

وبحسب بعض المعتقدات، نفيت ليليث (أو حواء الأولى) من الجنة، وحكم عليها بأن تشهد موت جميع أطفالها، متخلية بذلك عن دورها السابق كزوجة آدم وأم البشر. ومن هنا ولدت أسطورة ليليث، الشيطانة أو الغولة التي تسعى لقتل أبناء حواء (الثانية) حسداً وانتقاماً.

هذا الأمر أشار إليه المشرع والفقيه البريطاني جون سلدن في كتابه الشهير "عن الآلهة السورية" الصادر عام 1617. إذ يكتب:"... (إنها) تسمى ليليث بين اليهود؛ الاسم الذي اشتق من اسم هلالة (اللات) عند العرب، مصدر ليلى، أي تلك هي الليل... ويؤمن اليهود اليوم أن ليليث هي عدوة للنساء أثناء الولادة، ولأطفالهن، ووفقًا للطقوس القديمة، يكتبون بشكل خرافي تعويذات... بهذه الكلمات: آدم، حواء ... ليليث اذهبي من هنا".

وهو ما يعزز من الاعتقاد السائد بأن لكلمة (تهويدة) أو Lullaby صلة بـ Lilith Abi أو "ليليث اذهبي"، وبأن للزغرودة أو (لي لي لي ليش) أثر يمتد من شعائر قديمة تسعى لكف أذى ليليث عن العروسين، وبالأخص نسلهما المنتظر.

ما بدأ كتدوينات مرسومة على الجدران وفوق الأبواب حرصاً على حماية المواليد الجدد من أذى الأرواح الشريرة، استمر حتى يومنا هذا وإن كان عبر مظاهر ثقافية متعددة. فما تزال النساء تهدي الأمهات الجدد "تعليقات" توضع حول رقبة المولود أو في لفافته، للحماية من العين الحاسدة، بعضها على شكل عين، وبعضها على شكل كف.

ولا تزال الجدات تروين قصة الغولة التي تصدرت قصص ألف ليلة وليلة - والتي لا تتوانى عن الأذى إلا عند تلاوة آية الكرسي.

ربما لا تكون قصة ليليث سوى أسطورة منسية في عصرنا الحالي، إلا أن الأثر الكبير الذي تركته في مخيلة أجدادانا لا يزال حياً في وعينا الجمعي إلى حد كبير. وربما علينا أن نتذكره حين نتزيّن بكفّ أو عين من الآن وصاعداً.

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: