إعلان

حكمة السيكوباتيين

د. ياسر ثابت

حكمة السيكوباتيين

د. ياسر ثابت
07:00 م الخميس 04 سبتمبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

"أن يكون لديك مسدس ولا تحتاج إليه أفضل من أن تحتاج إلى مسدس ولا يكون لديك".

هذا ما يمكن أن ينصحك به كتاب "حكمة السيكوباتيين.. دروس في الحياة من القديسين والجواسيس والسفاحين" (صفحة سبعة، 2021) لعالم النفس البريطاني كيفن داتون، الذي تخصّص في دراسة الشخصية السيكوباتية. الطريف أن المؤلف ينسب المقولة إلى شخص أحمق (ص 135)!

في الكتاب الذي ترجمه عبد المقصود عبد الكريم ويقع في 368 صفحة، يعترف كيفن داتون بأنه وضَعَ هذا الكتاب في محاولة للتعرف على والده، الذي كان سيكوباتيًا.

يرى المؤلف أن "الأشخاص السيكوباتيين لا يعرفون الخوف، وهم واثقون وجذابون، ولا يعرفون الرحمة، ويتمتعون بقدرة على التركيز. وهم مع ذلك، على عكس الاعتقاد الشائع، لا يتسمون بالعنف بالضرورة" (ص 40).

ويذهب الباحث إلى أنه "ليس كل السيكوباتيين قديسين، وليس كل القديسين سيكوباتيين، ولكن هناك أدلة تشير إلى أنه في أعماق ممرات الدماغ، تشترك السيكوباتية والقداسة في فضاء مقر عصبي سري، وأن بعض الصفات السيكوباتية-الرواقية، والقدرة على تنظيم الانفعال، والعيش في هذه اللحظة، والدخول في حالات متغيرة من الوعي، وأن يكون المرء بطلًا، لا يعرف الخوف، أجل، أو حتى متعاطفًا – هي أيضًا صفات روحية بطبيعتها، ولا تُحسِّن رفاهية المرء فقط، لكنها تُحسِّن أيضًا رفاهية الآخرين" (ص 286).

في محاولة لرسم ملامح السيكوباتيين، يدخل بنا داتون كهف الصفات:

"يشير جيم كوري نائب رئيس الرابطة الوطنية الأمريكية لرؤساء الشرطة إلى نقطة مماثلة. إن السمات الشائعة بين السفاحين السيكوباتيين -كما يلاحظ كوري- وتتمثل في الشعور بالعظمة وقيمة الذات، والقدرة على الإقناع، والفتنة السطحية، وعدم الرحمة، وعدم الشعور بالندم، والتلاعب بالآخرين – يشاركهم فيها السياسيون وقادة العالم" (ص 38).

وربما تنتهي الظنون تمامًا حين نذكر أن المسح البريطاني الضخم للسيكوباتيين الذي أُجري في عام 2011 توصل إلى أن المهن العشر التي بها أعلى نسبة من السيكوباتيين هي: المديرون التنفيذيون، والمحامون، والإعلاميون (التليفزيون والراديو)، وأفراد المبيعات، والجراحون، والصحفيون، وضباط الشرطة، ورجال الدين، والطهاة، وموظفو الخدمة المدنية (ص 244).

في حادث وقع في بريطانيا في عام 2007، لم يتدخل ضابطان من ضباط دعم المجتمع بالشرطة لمنع صبي في العاشرة من عمره من الغرق "لأنهما لم يكونا مدَربين" على التعامل مع الحادث، في حين قال زوج أم الصبي: "ليس عليك أن تتدرب على القفز في الماء لتقفز وراء طفل يغرق" (ص 123).

هل المشكلة في كسر القواعد أم في القدرة على التفكير خارج المجموعة حتى تكون منقذًا للحياة؟

في إجابتك، ستتعرف أكثر على أحد جوانب الشخصية السيكوباتية.

يوضح كيفن داتون الفرق بين الشخصية المعادية للمجتمع والشخصية السيكوباتية على النحو التالي:

"ولكن هل هذا الاضطراب [اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع] هو نفسه اضطراب الشخصية السيكوباتية؟ يجادل الكثير من المنظرين بأنه ليس كذلك - وعلى الرغم من وجود تداخل بالتأكيد بين الاثنين، فإن الاختلاف الأساسي يكمن في التقلبات الخبيثة في الأهمية الخاصة للسمات: في الاختلال الواضح بين مزيج العناصر السلوكية لمعايير "الانحراف الاجتماعي" الذي يميز المصاب باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع والخلل الوجداني الأساسي، الشفق الانفعالي الغامض، الذي يفوح من الشخص السيكوباتي."

أحد المحاور الرئيسية في الكتاب هو ما يلي:

"إن الفرضية الجوهرية القائلة بأن السيكوباتيين يمتلكون الحكمة فرضية جادة. ربما لا تكون الحكمة بالمعنى التقليدي لتلك الكلمة: الحكمة باعتبارها خاصية تنشأ مع التقدم في العمر نتيجة لتراكم خبرات الحياة. لكنها الحكمة باعتبارها وظيفة فطرية، لا يمكن التعبير عنها، من وظائف كينونتهم" (ص 65).

في موضع آخر، يرى عالمُ النفس البريطاني أن "قوى الإقناع التي يتمتع بها الأشخاص السيكوباتيون لا تُضاهى؛ فقدراتهم على التكسير النفسي الآمن قدرات أسطورية" (ص 92).

ويضيف: "قد يلدغنا هؤلاء الرجال [السيكوباتيون]. لكنهم قد ينقذون حياتنا أيضًا. وفي الحالتين لديهم بالتأكيد ما يُعلِّموننا إياه" (ص69).

لا يتردد المؤلف في توظيف الأفكار والمقولات والنجوم؛ إذ نطالع:

"يقول ليوناردو دي كابريو، الذي يلعب دور فرانك أباجنيل، أحد أشهر المحتالين في العالم، في فيلم Catch Me If You Can "سقط فأران صغيران في سطل من الكريمة. سرعان ما استسلم الفأر الأول وغرق. لم يستسلم الفأر الثاني. كافح بشدة حتى أنه قام في النهاية بتحويل هذا الكريمة إلى زبدة وزحف خارجًا ... أنا ذلك الفأر الثاني" (ص 139).

عن مهن السيكوباتيين يقول كيفن داتون:

"إن السيكوباتيين مخادعون على الورق بقدر ما هم مخادعون حين نلتقي بهم وجها لوجه... وتؤكد لي زوجتي أنني لم أفلت من براثنهم النفسية الملتوية بدون أن أصاب بأذى."

لكنه يدفع بالوجه الآخر من العملة؛ إذ يقول:

"ومع ذلك، فإن الشخصية السيكوباتية قد تؤهل أيضًا للبطولة والصلابة العقلية، للسمات الجديرة بالتقدير مثل الشجاعة والنزاهة والفضيلة: القدرة، على سبيل المثال، على الاندفاع إلى المباني التي تشتعل فيها النيران لإنقاذ حياة من بداخلها.". أو لدفع الرجال البدينين من فوق الجسور ووقف القطارات التي تخرج عن مساراتها. تشبه السيكوباتية حقًا سيارة رياضية عالية الأداء. إنها سيف ذو حدين يقطع حتمًا في الاتجاهين كليهما" (ص 66-67).

في تقدير كيفن داتون، فإنه "من العار أن تفسد كل ما قمت به بالقيام بعمل غبي في الدقيقة الأخيرة."

بذكاء يستوقفك المؤلف عند نقطةٍ جوهرية، فيقول:

"لكن لاحظ كيف تمت برمجة التاريخ ليكرر نفسه. يسيطر القديسون [يقصد العمال المخلصين] على القرارات المؤثرة فقط في الوقت الذي يكون فيه الاقتصاد في حالة ركود، ويترأس المخادعون الأمر فقط طالما يمكن للقديسين إبقاؤهم في حالة رخاء. إنها آلة دوارة كئيبة لتناوب حالات الازدهار والكساد" (ص 144).

في رسالة من محام بريطاني إلى كيفن داتون، نقرأ:

"أدركتُ منذ فترة مبكرة جدًّا في طفولتي أنني كنت أرى الأشياء بشكل مختلف عن الآخرين. ولكن ذلك ساعدني في حياتي، غالبًا. إن الشخصية السيكوباتية (إذا كان هذا هو الاسم الذي تريد أن تطلقه عليها) تشبه الدواء بالنسبة للعصر الحديث. إذا تناولتها باعتدال، فقد تبرهن على أنها مفيدة للغاية. يمكن أن تخفف الكثير من العلل الوجودية التي قد نقع ضحية لها لأن أجهزة المناعة النفسية الهشة لدينا ليست مؤهلة للقيام بحمايتنا. ولكن إذا تناولت الكثير منها، إذا تناولت جرعة زائدة من السيكوباتية، فيمكن أن تكون لها، كما هو الحال مع جميع الأدوية، بعض الآثار الجانبية المزعجة إلى حد ما".

نطالع أيضًا ما يقوله شخص سيكوباتي متحدثًا إلى كيفن داتون:

"ليست الكريمة فقط هي التي ترتفع إلى القمة يا كيفن. الغثاء يرتفع إليها أيضًا. وتعرف أيضًا؟ أنا الكريمة والغثاء كلاهما. يعتمد الأمر على ما يستهويني."

ويخاطب سيكوباتي آخر كيفن داتون:

"يقولون إن الشجاعة فضيلة، أليس كذلك؟

ولكن ماذا لو لم تكن في حاجة إلى الشجاعة؟ ماذا إذن؟ ماذا لو لم تكن تعرف الخوف من البداية؟ إذا لم تكن تعرف الخوف من البداية، فأنت لا تحتاج إلى الشجاعة للتغلب عليه، أليس كذلك؟".

ويقول سيكوباتي ثالث لداتون:

"لا مبرر للخوف في معظم الأوقات على أي حال. أليس هذا ما يقولونه؟ تسعة وتسعون في المئة من الأشياء التي يقلق الناس بشأنها لا تحدث أبدًا. وبالتالي ما الهدف من الخوف؟" (ص 268).

يبقى أن الكتاب بالغ الأهمية للقارئ العادي والباحث الرصين، لما يحتويه من دراسات ومعلومات غزيرة، بل ومفاجئة، عن السيكوباتيين.. وحكمتهم!

إعلان

إعلان