إعلان

شبح حديقة الأعشاب!

د. ياسر ثابت

شبح حديقة الأعشاب!

د. ياسر ثابت
10:17 م الأربعاء 03 سبتمبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

انطلاقًا من أساس انعدام الأمن الوجودي، حيث تنفصل «الذات» عن الجسد، تجد الشخصية الفصامية ملاذها الآمن في ملاذ الغموض. ولأنها لا تشعر بالأمان ضمن إطار واحدي شمولي، تتفتت الذات المنقسمة إلى كيانات شبه مستقلة تعمل على حماية الشخص من تهديد خارجي متخيل بالفناء. عندما يُهدد إحساسك بالوجود والحياة وقيمة الذات، لمجرد فكرة أن تُدرك، فإن ذلك يُبشِّر بأن تصبح غامضًا ومفهومًا. فعندما تُصبح غير مفهوم للآخر، لا تواجه خوفًا من الدمار، ولا خوفًا من القتل، ولا قلقًا من «اكتشافك» ثم رفضك.

في كتابه «الذات المنقسمة: دراسة وجودية في العقل والجنون»، (دار آفاق، 2023)، يفترض رونالد ديفيد لانج (1927-1989)، وهو أحد أشهر الأطباء النفسيين المعاصرين، أن الفصام هو رد فعل على انعدام الأمن الأساسي الناتج عن الرفض؛ وأن الذات الحقيقية، بتبني شخصية ذات زائفة، والاختباء وراء قناع، تكون في مأمن من جميع الهجمات. انغلق على نفسك خلف جدران منيعة، ولن تخشى الفناء. ومع ذلك، فالعزلة مُدمرةٌ أيضًا. فغياب التواصل مع العالم يعني الموت حتمًا. تقتل نفسك لتمنع الآخرين من قتلك. إنها محاولةٌ مُدمرةٌ وعبثيةٌ للحفاظ على «الذات» بالتجويع.

ونحن لا نبالغ حين نقول إن هذا الكتاب أشبه بصندوق كنزٍ زاخرٍ بأشياءَ عرفها المرءُ بألفةٍ كبيرة. وصفٌ وتحليلٌ مُعمّقٌ لظاهرةِ الذاتِ المُنقسمة. يغوصُ في صميمِ الوضعِ، والعالمِ الداخليّ، وديناميكيّاتِ الذاتِ المُنقسمة. الكتابةُ بسيطةٌ وموجزة، ثاقبةٌ فلسفيًّا، ومُرضيةٌ نفسيًّا. بطريقةٍ ما، فإنّ الإنسانَ الآمنَ وجوديًّا هو المثالُ الذي تسعى الذاتُ إليه.

حين تقرأ الكتاب الذي ترجمه باقتدار عبد المقصود عبد الكريم، قد تدرك أهمية صفحاته التي تتجاوز 300 صفحة من القطع المتوسط، حتى أن البعض يعتبره أفضل كتابٍ في علم النفس الفينومينولوجي أو الظاهراتي على الإطلاق.

يتضمن الكتاب دراسات الحالة مزيجًا من التعاطف والعقلانية نادرًا ما تجده في أي عمل مكتوب عن الناس. دراساته عن حالتي جوان وجولي، والتي يُختتم بها الكتاب، يصعب علينا قراءتها دون أن تغمرنا مشاعر قوية. ظهر المرض على جوان وجولي وهما في سن السابعة عشرة، وخضعتا للعلاج النفسي. تشير جوان عدة مرات إلى الموت والرغبة في الموت، وتقول إن المريض «يريد حقًا أن يموت ويختبئ في مكانٍ حيث لا يمكن لأي شيء أن يلمسه ويسحبه إلى الخلف» (ص 250-251). ويمكن أن نشير إلى الرغبة في الموت، والرغبة في عدم الوجود، باعتبارهما أخطر رغبة يمكن متابعتها في مريض الفصام. أما جولي،التي اتهمت أمها بأنها تحاول قتلها (ص 276)، فقد تشظت ذاتها للغاية لدرجة أن من الأفضل وصفها بأنها تعيش وجودًا يشبه الموت في الحياة في حالة تقترب من اللا وجود المشوش (ص 278).

الكتاب ثوريٌّ في طريقة تطبيعه للعقل شبه الفصامي (الذي ما زال سليمًا إلى حد ما) والعقل الفصامي (الذي تجاوز مرحلة الذهان)، ويُصنّف البيئة التي دفعت العقل إلى خلق ذات زائفة حفاظًا على سلامته كمرض. يُعلّمنا الكتاب كيف نتعاطف (وهذا يعني الإنصات الصادق لما يقوله الناس، وهو أمر نادر) وكيف نفهم الجوانب الفصامية في شخصياتنا (لأنه لا يوجد أحد على وجه الأرض لم يخلق نوعًا من الذات الزائفة للتعامل مع العالم بسلاسة وأمان أكبر).

يُقدِّم الكتاب دراسة في مرض الفصام ومراحله المختلفة والمتطورة في الشخصية عبر الزمن والتي تختلف حدتها من مريض إلى آخر؛ بين الذات المزيفة أو الوهمية والذات المدركة (الواقعية) / الواعية، والذات المتجسدة وغير المتجسدة؛ والحالة (البينية) بين هذا وذاك والقدرة على قياس أو ضبط المسافة بينهما، مع توضيح الأسس الفينومينولوجية الوجودية لفهم الذهان.

يقول المؤلف: «في سياق جنوننا الحالي المنتشر، الذي نسميه الحياة الطبيعية والعقل والحرية، تأتي كلُّ أطرنا المرجعية مبهمة وملتبسة» (ص 16)، قبل أن يطلق رصاصة الرحمة على كثير من الآراء التقليدية بقوله: «كان يمكن أن يكون الطب النفسي، وبعض الأطباء النفسيين، إلى جانب التسامي، والحرية الحقيقية. لكن الطب النفسي يمكن أن يكون بسهولة أسلوبًا لغسل الدماغ، لتحفيز السلوك الذي يُعدَّل بتعذيب (يفضل) أن يكون غير جارح» (ص 17).

تضم مادة الكتاب مجموعة من الدراسات والقصص لعدد من الحالات التي تصف التطورات الذهانية وشدتها بين حالة وأخرى. كما تصف حال العقل الذهاني للمريض، وطرقه في التعبير والسيطرة على ذاته المنقسمة بين عدة شخوص أو حالات مع سبرأغوار النفس والأفكار، بين الواقع واللا واقع والانشغال بالذات. ينقلنا المؤلف إلى كل المعارك بشذراتها الفوضوية التي تطحن المريض من الداخل.

يتعرَّف القارئ في هذا الكتاب على تجربة شبح حديقة الأعشاب، وعلى الذات والذات الزائفة، وأسس علم الشخصية، وأسس فهم الذهان، وكيف يكون انعدام الأمان؟

لا يسعنا إلا الاعتقاد بأن استراتيجية الكشف عن هوية المرء باختلاق ذاتٍ زائفةٍ لتصويرها ظاهريًا هي حيلةٌ عاديةٌ وطبيعية. إلى حدٍّ ما، جميعنا نرتدي قناعًا. عادةً ما نتنكر لإخفاء سماتٍ تبدو غير مرغوبةٍ مؤقتًا حتى نشعر بالراحة في التعبير عنها بشكلٍ أكمل. لكن مع تحول الفصامي إلى انفصام، يصبح هذا القناع أشبه برأس ميدوسا؛ يُجمّد الآخرين قبل أن تتاح لهم فرصة تجميدنا. هل راودتك فكرةٌ مُقلقةٌ بأن أحدهم يراك بوضوحٍ شديد، ويراك على حقيقتك، بكل عيوبك ونقائصك وعيوبك؟ أليس هذا الموقف مُرعبًا للغاية؟ العودة إلى التنكر مُريحةٌ. لن تشعر أبدًا بعدم الأمان في هذه الحالة إذا لم تكن الشخصية التي تُصوّرها هي «الذات» التي تعتقد أنها أنت. يصبح الاختباء بهذه البراعة أكثر من مجرد راحة، أن تصبح محصنًا من خلال كونك «لست أنت».

ولكن عندما تصبح «أنت» «لست أنت»، ما هو أساس تواصلك مع العالم؟ مع الآخرين؟ كيف يمكنك أن «تعيش» حقًا وأنت لست أنت؟ بأي معنى تكون حيًا حقًا بعد أن قتلت «ذاتك»؟

في عام 1960، كان لانغ في مقتبل العمر عندما نشر تُحفته التي بين أيدينا، وهي توجّهٌ بارعٌ ورؤيويٌّ للأمراض النفسية، مستلهمًا من رواد الوجودية الظاهراتية (ياسبرز، سارتر، وآخرون)، وهو عملٌ جعله نجمًا في الثقافة المضادة. بالنسبة للانغ، كما بالنسبة لفوكو، لا يمكن عزو الأمراض النفسية إلى عيبٍ بيولوجيٍّ فحسب. هذا المفهوم يُمثّل كبش فداء؛ إذ يُبرئ المجتمع ككل (وغيره من الديناميكيات البيئية) من الدور الأساسي الذي يلعبه. المرض النفسي، إذًا، نتاجٌ لعلاقاتنا الاجتماعية، وديناميكيات السيد والعبد داخل الأسرة والمجتمع، والتي تُؤدي حتمًا إلى شعور البعض بـ«انعدام الأمن الوجودي». الشخص الذي يعاني من انعدام الأمن الوجودي يكون منعزلًا عاطفيًا عن التجربة، منعزلًا عن ذاته، منغلقًا داخل قلعةٍ مركزيةٍ يصعب على الآخرين اختراقها. يقترح لانغ أن ما يسعى إليه المصاب بالفصام هو «الموت داخل الحياة»؛ إذ يصبح التفاعل العاطفي مستحيلًا ويصبح الانسحاب نمط حياة يائسًا. هؤلاء الأشخاص يتجهون نحو الحياة بلا أمل؛ حيث يُشعرون بأن تجربة و«نظرة» الآخر مُحطمة ومُثيرة للانتحار. ويقترح أننا بحاجة إلى لقاء المصاب بالفصام في ضباب وحدته، وكسر طغيان الاختلاف المُتغلغل فيه (لأن المصاب بالفصام يعيش تحت شبح «الآخر المُستبطن»). وهذا يتطلب تجاوز حدود العلاج النفسي التقليدي.

نجح كتاب لانج في إثارة الشك حول الكثير من نظريات الطب النفسي وممارساته، وخاصة فيما يتعلق بثنائية العقل والجنون. بدا «الذات المنقسمة» علامة فارقة في تاريخ الطب النفسي، مما جعل ديفيد كوبر يصف لانج بأنه طبيب نفسي مضاد، أي مضاد للنظرة التقليدية السائدة في الطب النفسي، لتصبح ثنائية العقل ـ الجنون التي يتأسس عليها الطب النفسي، إلى حد بعيد، موضعَ شكٍّ، وهي الثنائية التي يناقشها لانج في هذا الكتاب من منظور غير تقليدي. ولم يكن لانج أول العلماء الذين انقلبوا على النموذج السائد في العلوم التي درسوها بغية تطويرها وتوسيع مجال الرؤية فيها، ولن يكون آخرهم.

نوصي بهذا الكتاب بشدة، خاصةً لمُختصي الصحة النفسية والأشخاص الذين يُعانون من القلق، والاكتئاب، والغضب، والموت العاطفي، والسلبية المرضية، والإدمان، والميول الانتحارية، والاغتراب الوجودي، أو اليأس.

على صعيدٍ أكثر طرافة، يُقدِّم هذا الكتاب قصة «لستُ أنا المُجنون، بل الجميع مُجنون!»، ولكن بطريقة مُقنعة تمامًا، ومُدعّمة سريريًا.

إعلان

إعلان