إعلان

لغة الصورة في السينما

د. ياسر ثابت

لغة الصورة في السينما

د. ياسر ثابت
07:25 م الإثنين 22 سبتمبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

كتب المخرج الفرنسي آبل غاس في عام 1926 يقول: «لقد أقبل عصر الصورة»، وهو قولٌ تؤيده -إلى حدٍ بعيد- تلك الأفلام العظيمة التي أنجزتها السينما الصامتة في أعوامها الأخيرة، مثل «شروق الشمس: أغنية اثنين من البشر» Sunrise: A Song of Two Humans (1927) لفريدريك مورناو، و«أكتوبر: عشرة أيام هزت العالم» October: Ten Days That Shook the World (1927) لسيرجي آيزنشتاين، و«نابليون» Napoléon (1927) لغاس نفسه، إلا أن هذه السينما بالغة الطرافة والحيوية أخذت تتلاشى مع قدوم الصوت.

بدا أن التلاشي إلى غير رجعة، فالأسلوب التعبيري الذي أبدعه مورناو وأقرأنه تلقفته هوليوود وطوعته لأغراضها ليصبح أسلوبًا متبعًا في الإضاءة التقليدية لأفلام الإثارة ذات الصنعة المحبوكة، وفي أفلام الجريمة والدراما المظلمة Film noir التي سادت في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. كذلك المونتاج الذي ابتكره آيزنشتاين تراجعت حدة جرأته، وتقلصت دائرة إبداعه ليصير دعامة للفيلم التسجيلي البريطاني المشبع بروح التقليد والمسايرة. وكانت نظريات الفن التي ذاعت في عشرينيات القرن الماضي ترى في الفيلم الصامت -رغم صمته- ذروة كل الفنون.

ولقد كانت قدرة المخرج على التجديد في الأسلوب السينمائي أو الابتكار فيه محددة بإطار من الفن، هو في جوهره من واقعي النزعة، رغم ما ينطوي عليه من تناقضات. ترى ذلك جليًا في مجموعة من الأفلام تبدأ بفيلم College «الكلية» عام 1931، وتمر بفيلم Down to Earth (1947) وتنتهي بفيلم Umberto D. (1952)، ففي هذه المجموعة من الأفلام يتبدي أسلوب رينوار المسرحي كما تبرز رؤية فيسكونتي الأوبرالية، وفيها أيضًا تتكشف حيوية نابولي عند دي سيكا.

يقول آبل غاس «ليست الصورة هي التي تصنع فيلمًا، بل روح المصور»، ويجيبه أبشتين: «السينما هي أقوى وسيلة شعرية، والوسيلة العظمى الحقيقية لما هو فوق الواقع كما يقول أبولينير».

وفي كتابه «لغة الصورة في فن السينما» (دار مزيج، 2023)، الذي ترجمه حافظ علي، يرى المؤلف روي آرمز أن عصر الصورة قد عاد للظهور في أواخر الخمسينيات، ولكن الصورة هذه المرة اكتنفها نوعٌ جديد من اللبس والغموض، فقد نجح عددٌ من الفنانين ممن تتباين اتجاهاتهم الفنية من أمثال برغمان ورينيه وأنطونيوني في المزج بين التراث والواقعية (ومن تراث هذه المدرسة كانت بداياتهم الفنية) وتراث السينما الصامتة - فالصورة السينمائية كما تتمثل في أفلام: «القناع»، و«أحبك، أحبك»، و«تكبير الصورة» تتسم بالتعقيد والقوة التعبيرية شأنها في ذلك شأن الصورة التي تُقدِّمها لنا روائع السينما الصامتة.

أضف إلى هذا أن الوعي السينمائي المتزايد لدى جمهور السينما قد أتاح الفرصة لصُناع السينما أن يُقدِّموا حلولًا غير تقليدية للمشكلات، وهي حلولٌ لم يكن في مقدور أي منهم أن يفكر فيها أو أن يتصورها في ظل سيادة هوليوود وهيمنتها على السينما - فضلًا عن أن الروابط بين السينما والفنون الأخرى أخذت تتوثق كلما اقتربت السينما من روح العصر وفنونه (ص 7-8).

يتناول روي آرمز في كتابه موضوع السينما الحديثة أو سينما الحداثة، ويرى أن السينما الأوروبية الحديثة رفضت بعض القيود التي فرضتها الواقعية الجديدة على المعالجة السينمائية، ولكنها احتفظت بقدر من الاهتمام توليه للإنسان، سواء من حيث الدور الذي يلعبه، أو من حين العلاقة التي تربطه بأخيه الإنسان.

ولعل أبرز ما في السينما الحديثة طريقة معالجتها لمفهوم الزمان. فالصورة السينمائية -في جوهرها- صورة تعرض علينا الأحداث مبسوطة على بساط الزمان.

يبقى أن المكان السينمائي ليس مجرد خلفية أو وعاء للأحداث كما يعتقد البعض، ولكن المكان هو جزء من الحدث موجود دائمًا حتى لا يمكن الاستغناء عنه، إن محاولة إبراز الممثل أو تقديم لقطات قريبة كبيرة له بحيث يحجب جسده أو وجهه أي شيء عن الظهور في الكادر والاستغناء عن المكان هو خطأ جسيم، فالإنسان مهما كانت حركته لا يتحرك في فراغ مطلق والإحساس الجمالي لا ينبع إلا من وجود الجسد الإنساني داخل إطار مكاني، فإن أي لقطة لا بدَّ وأن تدور في المكان حتى ولو كانت لقطة كبيرة لوجه ممثل أو ممثلة فإن هذا يعطيها بُعدًا دراميًا سينمائيًا، فإن ذلك يشير مثلًا إلى أن فزع الممثل أو الممثلة إنما هو نتيجة وجودها أو وجوده في مكان معين.

وهذا لا يعني أن يكون اختيار المكان اختيارًا عاديًا، فإذا كانت الأحداث تدور مثلًا في أحد البيوت فلا يكون أي بيت، في هذه الحالة يجب أن يكون لهذا البيت دلالات سينمائية كثيرة ويجب أن يكون المكان مناسبًا للحدث وصالحًا للتعبير السينمائي وأن تتناسب ألوانه مع الجو العام للحدث السينمائي، ولذلك فإنه من الأفضل بنائه ديكورًا وعدم اللجوء إلى مكان طبيعي لا تتوافر فيه الشروط التي ذكرناها، فالفن هو إعادة تقديم للواقع وليس الواقع نفسه.

عندما أخرج مايكل أنجلو أنطونيوني فيلم «الصحراء الحمراء» أطلق عليه بعض النقاد بأنه أول فيلم سينمائي بالألوان رغم وجود مئات الأفلام السينمائية الملونة قبله، لأن أنطونيوني استخدم الألوان استخدامًا سينمائيًا سليمًا أي أن كل لون -وبالذات اللون الأحمر- كان له دلالته، ووظف أنطونيوني المكان توظيفًا دراميًا سينمائيًا، وكان لمهندس الديكور إسهامٌ كبير.

ورغم أن أنطونيوني ينتمي إلى مدرسة الواقعية الجديدة وهي مدرسة كانت تستخدم الأماكن الطبيعية وذلك لظروف معينة وأسباب مادية، فقد دمرت الحرب العالمية الثانية معظم استوديوهات السينما الإيطالية فلجأ روسيليني ودي سيكا وفيسكونتي إلى التصوير في الأماكن الحقيقية، بل إن بعضهم استخدم أناسًا غير محترفين للقيام بتمثيل بعض الأدوار وذلك من أجل مزيد من الواقعية.

الشاهد أن الفيلم ليس مجرد موضوع ولكن المهم كيف يخرج إلينا هذا الموضوع، ولكي يخرج إلينا الفيلم السينمائي على أكمل وجه يخوض صانعوه معركة من التحدي مع الآلة التي يستخدمونها لتقنين طاقتها. يقول آرثر نايت في كتابه «أكثر الفنون حياة» ما يؤكد هذا المعنى: «وخلال تاريخ السينما كله يجد المرء هذه الأمواج المتصاعدة للتغير التكنولوجي الذي غمر الوسيط ليغير من شكله ويخلق مشكلات جديدة للفنانين، وفي الواقع فإن تاريخ السينما بشكل كبير هو تقرير عن المخرجين حول العالم الذين يجربون ميكانيكية المخترعين واكتشاف طرق لخلق التسلية وتحفيز الأفلام من أجل جماهيرهم، البعض قبلوا الوسيط واستخدموه بشكل مؤثر، وأضاف البعض مهارة وخيالًا ليجعلوا منه فنًا أكثر تعبيرًا وتأثيرًا، واستطاع القليل من بعض العباقرة أن يستخرجوا من آليات السينما طرقًا مبتكرة في استخدام الكاميرا وطرقًا جديدة في الربط بين لقطاتهم ووظيفة جديدة للممثل والديكورات وشريط الصوت - أفكارًا غيّرت مجرى الإبداع السينمائي».

ثمة سؤالٌ قد يتبادر إلى الذهن كثيرًا ويثير الدهشة وذلك عندما نتأمل تاريخ الفيلم السينمائي، حيث يتساءل المرء: هل من المعقول في زمن كانت الآلات السينمائية ما زالت في بدايتها، فإذا بالفنان السينمائي يبدع أفلامًا قادرة على التعبير بالصورة فقط وتُقدِّم لنا كل الاتجاهات الفنية؟

في عام 1926 أعلن آبل غاس بأنه قد أتى عصر جديد في مجال الفنون وهو عصر الصورة، ولكن للأسف عندما تتطور الآلات وتتنوع يقل التعبير بالصورة ويقل الإبداع ويتم الاعتماد على عناصر فنية أخرى وخاصة عنصر الصوت، هل في زمن الصمت كانت السينما أقوى منها عندما نطقت أو بمعنى آخر هل كانت السينما تُقدِّم الفن السينمائي الحقيقي؟

لا بدَّ، إذن، للفكر السينمائي أن يحاول تدارك هذا الخطأ ويستغل الآلة أفضل استغلال حتى يعود ويقترب من الفن السينمائي الخالص ويمنحه قوته في التعبير عن طريق الصورة بحيث تكون بقية العناصر الأخرى ما هي إلا عناصر مساعدة تضفي المزيد من الجماليات على الفن السينمائي.

إعلان

إعلان