إعلان

سيرة ومسيرة| «خيري شلبي».. أمير المهمشين

محمد جادالله

سيرة ومسيرة| «خيري شلبي».. أمير المهمشين

محمد جادالله
07:01 م الإثنين 15 سبتمبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

اسمحوا لي في البداية أن أقدّم اعتذارًا خالصًا إلى الأديب الكبير خيري شلبي، رحمه الله، وإلى قرّائه ومحبّيه، لأنني اقترفت خطأً كبيرًا في حقه. كنت دائمًا أطرح على نفسي سؤالًا وأجيب عنه بثقة: هل هناك أديب آخر – غير نجيب محفوظ – استطاع أن يقرأ الواقع ويصوغه في عمل أدبي نابض بالحياة؟ وكنت أقول لنفسي: لا، هو وحده الذي نال نوبل، وهو وحده الذي امتلك هذه القدرة.

لكن الحقيقة أنّني لم أكن قد منحت خيري شلبي ما يستحق من قراءة وتأمل. وحين وقعت بين يدي رواياته منذ نحو عام ونصف، أدركت الفارق. نجيب محفوظ تناول الواقع وأعاد تشكيله فنيًا، لكنه كثيرًا ما كتب عن عوالم لم يعش تفاصيلها كاملة. أما خيري شلبي فقد عاش التجربة بكل ما فيها من مرارة وحرمان، ثم حوّلها إلى حكايات نابضة، كأنه يأتي من المستقبل ليقول لنا: "ها هو ما سيحدث"، أو "هكذا ستجري الأمور". معه، ندرك بعمق معنى أن "تعيش لتحكي".

خيري شلبي كان نموذج الأديب الذي لم يدفن البساطة ولا القسوة التي عاشها، بل صهرها في أدب يفيض حياةً ويمنحنا القدرة على رؤية الماضي وكأننا نعيشه لحظة بلحظة. في قصصه ورواياته نلتقي بهذا العالم الفريد، وها نحن اليوم ندعوكم لاكتشافه معنا، لتعرفوا كيف استطاع أن يحوّل تجربته إلى مادة أدبية باقية، نقرأها لا لنعرف فقط ما كان، بل لنرى بأعيننا حياة كاملة تُستعاد من بين السطور.

كنتُ قد اعترفتُ أنني لم ألتفت إلى عالم خيري شلبي إلا متأخرًا، وحين ولجتُ أبواب رواياته أدركتُ أن سر فرادته يعود إلى جذور عميقة في حياته منذ طفولته. فقد وُلد الأديب الكبير في 31 من يناير عام 1938م بقرية شباس عمير بمحافظة كفر الشيخ، وهناك بدأت ملامح شخصيته الأدبية تتشكل مبكرًا. ولعل من أمتع ما كان يحكيه شلبي عن تلك المرحلة قصة حقيبته المدرسية، التي لم تكن كبقية الحقائب، بل صُنعت له خصيصًا من الخشب على يد نجار قريته، فبدت أشبه بقطعة فنية تحمل رسالة خفية. كان يرى فيها علامة تؤكد له أن طريقه ليس النجارة ولا الحرف اليدوية، بل التعليم والكتابة. ومنذ تلك اللحظة، اختار أن يمضي في دربه الأدبي والتعليمي، رابطًا حياته بالكتاب والقلم، لا بالعدد والأخشاب.

ومع بداية شبابه، لم تكن حياة خيري شلبي سهلة أو ممهدة بالورود، بل عاش مثل أي شاب بسيط "ورور" ــ على حد وصفه الطريف لنفسه ــ يبحث فقط عن لقمة العيش. فعمل في جمع القطن، وتعلّم الخياطة، ورافق عمال التراحيل متنقّلًا بينهم في معظم محافظات مصر. كما جرّب البيع في الأتوبيسات كبياع سريح. هذه التجارب، على قسوتها، لم تكن مجرد وسيلة للبقاء، بل كانت المعين الأول لخياله الأدبي، إذ منحتْه ثراءً إنسانيًا ومعرفة دقيقة بعوالم الناس البسطاء. ومن هذا المخزون الشعبي صنع قصصًا نابضة بالفانتازيا كما في مجموعاته القصصية «عدل المسامير» و«ما ليس يضمنه أحد»، وأبدع روايات مثل «السنيروة» و«بلغة العرش» و«الشطار». ولم يكن غريبًا أن نجد شخصياته أقرب ما تكون إلى الواقع، حتى أن أبطال روايتيه «منامات عم أحمد السباك» و«وكالة عطية» فوجئوا بعد النشر أنه نجح في كشف بعض خفايا سلوكياتهم التي لم يكونوا واعين بها.

وهنا تتجلّى بوضوح الموهبة الاستثنائية التي صنعت اسم خيري شلبي، ورسّخت مكانته المتفرّدة بين كتّاب جيله في الستينات. صحيح أن يوسف إدريس كتب عن المهمشين في مجموعته الشهيرة «أرخص ليالي»، وأن محمد مستجاب ويوسف القعيد وغيرهم تناولوا قضايا الفقراء والصراع الطبقي وسطوة البرجوازية، إلا أنّ خيري شلبي ظل مختلفًا عن الجميع؛ لأنه لم يكتفِ بزاوية واحدة، بل قدّم رؤية شمولية تتقاطع فيها الأبعاد الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والنفسية. ومن هنا جاء لقبه المستحق الذي لم ينافسه فيه أحد: «أمير المهمشين»؛ فقد عاش بينهم، وكتب عنهم بعيونهم، وأعاد صياغة عوالمهم في نصوص أدبية نابضة بالواقع.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك؛ بل إن نجيب محفوظ نفسه شهد لخيري شلبي بالتفرّد. فقد سُئل محفوظ ذات مرة: لماذا لم تكتب عن القرية المصرية؟ فجاء رده حاسمًا: «إزاي أكتب عن القرية المصرية وعندنا خيري شلبي؟». لم تكن تلك الإجابة مجاملة عابرة ولا دبلوماسية محسوبة، بل كانت اعترافًا صريحًا من أديب نوبل بقيمة موهبة خيري شلبي، وإقرارًا بأن الرجل كتب القرية والريف والمهمشين بعمق وصدق لا يُجارى.

وقبل أن يرحل خيري شلبي، أضفى على الصحافة المصرية لونًا جديدًا في الكتابة الأدبية، مستوحى من تقاليد الصحافة العالمية، من خلال تقديم إسهامات بارزة في فن البورتريه الأدبي. فقد كان شلبي بارعًا في قراءة الشخصيات، قادرًا على رسم بورتريه كامل بالكلمة، يلتقط تفاصيلها الخارجية والداخلية معًا بصياغة أدبية دقيقة لا يضاهيها نحات ولا فنان تشكيلي، وحتى أحيانًا طبيب نفسي. وخلال مسيرته، رسم أكثر من 250 بورتريه لشخصيات مختلفة، يمكن اكتشافها في كتبه، وكان من أشهرها كتابه «عناقيد النور»، الذي جمع هذه البورتريهات بشكل متقن، لتصبح مادة أدبية حية تتيح للقارئ التعرف على الشخصيات وكأنها أمامه مباشرة.

كما تُوِّجت مسيرة خيري شلبي بالعديد من الجوائز التي أكدت مكانته الأدبية البارزة، فقد حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1980م، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1981م، وجائزة أفضل رواية عربية عن روايته "وكالة عطية" عام 1993م. وتوالت الجوائز بعد ذلك، فحصل على الجائزة الأولى لاتحاد الكتاب للتفوق عام 2002م، وجائزة أفضل كتاب عربي من معرض القاهرة الدولي للكتاب عن روايته "صهاريج اللؤلؤ" عام 2002م، وجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية في القاهرة عن روايته "وكالة عطية" عام 2003م، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2005م. ولم يقتصر الاعتراف بمواهبه على مصر فحسب، إذ رشحته مؤسسة "إمباسادورز" الكندية لجائزة نوبل للآداب، تأكيدًا على مكانته الأدبية المرموقة على المستويين المحلي والدولي، وعلى إرثه الثقافي الغني الذي يظل حاضراً في سماء الأدب العربي.

وبجانب الجوائز والتكريمات، لم تقتصر مساهمات خيري شلبي على الإنتاج الأدبي فقط، بل امتدت إلى العمل الإعلامي والثقافي. فقد تولّى رئاسة تحرير مجلة "الشعر" التابعة لوزارة الإعلام لسنوات، وأشرف على سلسلة "مكتبة الدراسات الشعبية" الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. وفي ستينيات القرن الماضي، عمل كناقد مسرحي لمجلة الإذاعة والتلفزيون، حيث أصدر خلالها كتبًا مهمة مثل "دراسات في المسرح العربي" و"مسرح الأزمة: نجيب سرور". ولم يكتفِ بالنقد، بل أبدع أيضًا في تأليف مسرحيات مثل "صياد للولي" و"المخربشين"، ليترك بصمة واضحة في المشهد الأدبي والمسرحي المصري، ويؤكد مكانته كأديب شامل بين النقد والإبداع.

خيري شلبي لم يكتفِ بالمسرح والنقد فقط، بل أسهم بشكل هائل في إثراء الحياة الثقافية المصرية، حيث قدّم ٧٥ كتابًا تنوّعت بين الروايات والمسرحيات والمجموعات القصصية والدراسات النقدية. ومن بين أعماله البارزة: رواية "الوتد" التي تحوّلت إلى مسلسل تلفزيوني عام ١٩٩٦ وشارك فيه نجوم مثل هدى سلطان ويوسف شعبان وفادية عبدالغني وهالة فاخر. ومن مجموعاته القصصية، برزت أعمال مثل "صاحب السعادة اللص"، و"المنحنى الخطر"، و"الدساس". كما ترك بصمة مميزة في الدراسات النقدية، إذ قدّم كتبًا مثل "محاكمة طه حسين" الذي يُعدّ مرجعًا مهمًا في التحقيقات القضائية والأدبية حول كتابه "الشهر الجاهلي"، و"أعيان مصر: وجوه مصرية"، و"أبو حيان التوحيدي" الذي يُظهر ببراعة مهارته في رسم البورتريه الأدبي للشخصيات.

وفي ٣١ يوليو ٢٠١١م، أصدر خيري شلبي كتابه الأخير "أنس الحبايب"، فصول من سيرته الذاتية وكأنّه كان يودّعنا عبرها. وبعد أقل من شهرين، في ٩ سبتمبر ٢٠١١م، رحل خيري شلبي عن عالمنا، لتفقد مصر والوطن العربي روائيًا فذًا ونهرًا من عطائه الكبير. وقد وصف نفسه مؤرخًا لفئة المهمشين، وفعلًا كان مؤرخًا بارعًا لهم، مسجّلًا قصصهم وتجاربهم بأسلوب أدبي خالد، لتبقى كتاباته شاهدًا حيًا على حياة المهمّشين وأصواتهم. وبذلك تُختتم هذه السيرة، تاركة وراءها إرثًا ثقافيًا غنيًا يثري المكتبة العربية ويستحق الدراسة والتمعّن.

إعلان

إعلان