إعلان

جيش مصر ودروس التاريخ والأجداد

د. أحمد عبد العال عمر

جيش مصر ودروس التاريخ والأجداد

د. أحمد عبدالعال عمر
07:24 م الأحد 30 أبريل 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

حب هذا الوطن والدفاع عنه والحفاظ عليه، هو ميراث أجدادنا وآبائنا الذي نعتز به، ونحمله في قلوبنا وفوق ظهورنا، لنورثه لأبنائنا وأحفادنا من بعدنا.

ومنذ أدرك المصري القديم أهمية وعظمة بلاده، عرف بالتجربة أنها مطمع للغزاة من أجل ثرواتها وموقعها الجغرافي الفريد، وسعى بكل ما يملك إلى حمايتها وتأمين حدودها وثغورها ووحدة وأمن وسلامة أراضيها.

ولهذا أسس المصري القديم أول جيش وطني في التاريخ، وأول مؤسسة عسكرية نظامية شهدتها البشرية، وجعل جوهر عقيدته القتالية منذ نشأته الأولى "الدفاع عن أرض مصر" في مواجهة كافة أشكال المخاطر الخارجية والداخلية، والدفاع عن وحدة وأمن واستقرار وثروات هذا الوطن.

وبناء عليه فقد قام في مصر منذ 32 قرنًا من الزمان أقدم شكل للحكومة والسلطة المركزية، وكان عماد تلك السلطة هو الجيش الوطني، والحاكم الوطني الواعي بعظمة مصر، والقادر على حماية أمنها وأرضها.

وقد جاءت السلطة المركزية في مصر كضرورة أملتها مقتضيات الدفاع عن هذا الوطن، وكنتيجة لمقتضيات تنظيم عمليات الري، ووضع سبل الاستفادة من مياه النهر بما يضمن الأمن والاستقرار واستمرار العمران.

وقد قبل المصريون هذه السلطة المركزية وتوافقوا مع حكامها وقادتها ما دامت توفر لهم الحماية من المخاطر الخارجية، وتوفر لهم الأمن من الفوضى والمخاطر الداخلية، وتيسر لهم مقتضيات الحياة الكريمة.

وكل تلك الحقائق التاريخية يكشفها لنا ويُثبت صدقها كتاب قيم صدر حديثًا للأستاذ الدكتور عصام السعيد أستاذ تاريخ وآثار مصر والشرق الأدنى القديم بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، الذي حمل عنوان "صفحات مشرقة للجيش المصري القديم .. حرب التحرير ضد الهكسوس".

والكتاب جدير بالقراءة في لحظتنا الراهنة المُتخمة بالتهديدات والمخاطر التي تستهدف مصر، وتريد إضعاف المؤسسة العسكرية، وهدم جدار الثقة التاريخي بين الشعب المصري وجيشه الوطني.

ويُمكننا من خلال هذا الكتاب استخلاص الكثير من الدروس الوطنية والعسكرية والجيوستراتيجية التي تؤكد أهمية الوحدة الداخلية في مواجهة المخاطر الخارجية، وأهمية تقوية جيشنا الوطني لأنه كان وسوف يظل عمود خيمة هذا الوطن، وأهمية وجودنا وتأثيرنا في محيطنا الإقليمي وفي نطاق مجالنا الحيوي وعمقنا الأفريقي.

يعرض الكتاب لواحدة من أكثر المحن التاريخية التي مرت بها مصر القديمة، وهي محنة أثرت كثيرًا في نفسية المصريين وأذاقتهم لأول مرة في تاريخهم مهانة الغزو والاحتلال.

وهي محنة سنوات "حكم الهكسوس" الذين شكلوا في التاريخ المصري الأسرات الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة (1650 – 1550) قبل الميلاد.

والهكسوس هم الغزاة أو الأمراء الرعاة الأجانب الذين غزو مصر من الداخل، بعد أن دخلوها في شكل هجرات سلمية، ثم سيطروا على الحكم في جزء كبير من أرضها ودنسوا ترابها الوطني وأهانوا مقدسات المصريين.

وقد عرف المصريون معهم أول صور الاحتلال الأجنبي في تاريخهم، وأطلقوا على تلك السنوات اسم سنوات "الوباء" أو "الطاعون"، ولهذا ظلت تلك السنوات عالقة في أذهان المصريين لسنوات طويلة بعد التحرير.

يوضح الكتاب أصل الهكسوس والطريقة التي تسللوا بها إلى مصر في الأسرتين الثانية عشرة والثالثة عشرة، وكيف نجحوا - بسبب ضعف مؤسسات الدولة، وغفلة الحكام - في غزو مصر من الداخل والسيطرة على شرق وشمال مصر حتى مدينة "القوصية" شمال أسيوط، وتمزيق وحدة الأرض المصرية، وحكم مناطق نفوذهم لمدة قرن من الزمان.

كما يعرض الكتاب لتفاصيل سنوات حرب التحرير التي خاضها المصريون ضد الهكسوس، ويعرض لجهود ملوك مصر وحكامها الوطنيين (ملوك طيبة) في توحيد وتقوية جيشها لتحرير أرض مصر من مهانة الاحتلال الأجنبي.

بداية من الملك العظيم "سقنن رع" الملك "الصادق الصوت"، الذي استشهد بين جنوده، وهو يحارب الهكسوس، والذي تُظهر مومياؤه - التي نُقلت مؤخرًا إلى متحف الحضارة - مدى شجاعته، حيث تحتفظ المومياء بأثر الجرح الذي كان سببًا في وفاته وهو يُقاتل ببسالة إلى جانب جنوده.

وهو المصير الذي يُذكرنا بمصير الشهيد الفريق أول عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، والقائد الوطني المصري العظيم، الذي استشهد بين جنوده على الجبهة في أثناء حرب الاستنزاف في يوم 9 مارس 1969.

ثم يعرض الكتاب لجهود الملك "كاموس"، وهو الابن الأكبر للملك "سقنن رع" في استكمال مسيرة والده في نضاله العظيم ضد الهكسوس، وكيف استشهد أيضًا أثناء حرب التحرير.

ليخلفه من بعده في استكمال حرب التحرير أخوه الأصغر الملك "أحمس" الذي استطاع ببراعة ودهاء مميزين التخطيط للحرب، وتوحيد قوى الشعب المصري في الجنوب والشمال، ثم تحرير مصر من الهكسوس الذين دنسوا أرضها، وأهانوا مقدساتها؛ ليكتب التاريخ الوطني والعسكري المصري اسم أحمس واسم أبيه "سقنن رع" واسم أخيه "كاموس" في سجلاته بحروف من دم ونور.

ثم جاء من بعد هؤلاء الملوك المحاربين العظام ملك مصري وقائد وطني عظيم هو" تحتمس الثالث" الذي كان حاكمًا وطنيًا مصريًا من الطراز الأول، ومفكرًا استراتيجيًا بارعًا؛ لأنه أدرك أن أمن مصر القومي يبدأ من خارج حدودها وعبر مد سيطرتها ونفوذها في في دول الإقليم وعبر مجالها الحيوي في أسيا وأفريقيا.

ولهذا قام بتقوية الجيش، وقاد ست عشرة حملة عسكرية خارجية استطاع بها أن يُثبت نفوذ مصر في آسيا وحتى إلى ما وراء بلاد النوبة جنوبًا، لتصبح الدولة المصرية في سنوات حكم تحتمس الثالث إمبراطورية مترامية الأطراف.
في النهاية، إن قراءة هذا الكتاب، وتأمل الأحداث التي يؤرخ لها، تُعلمنا الكثير من الدروس الوطنية التي يجب التوقف عندها واستيعابها وإبرازها في سياق متغيرات الواقع الإقليمي والإفريقي والدولي الراهن.

الدرس الأول: أن نجاح الدولة المصرية في إدارة خلافاتها وصراعاتها الإقليمية والدولية استند دائمًا على استقرار ووحدة الجبهة الداخلية، ودعم الشعب للدولة ومؤسساتها وقياداتها.

الدرس الثاني: أن الجيش المصري القوي والموحد، كان وسوف يظل "عمود خيمة هذا الوطن"، وطوق نجاته الأخير في مواجهة كل أشكال التهديدات والمخاطر التي تستهدفه.

الدرس الثالث: أن أمن مصر القومي يبدأ من خارج حدودها، ويمتد لمجالها الحيوي الأسيوي والأفريقي . وأن مقتل مصر في انكماشها على ذاتها، لأن هذا الانكماش يفتح الباب لاستهدافها في عقر دارها وداخل حدودها بعد إضعافها وخنقها.

إعلان