إعلان

مراوغات الحياة والناس ..

د.هشام عطية عبد المقصود

مراوغات الحياة والناس ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 12 أغسطس 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ينسى الناس فى رحلتهم تلك أن سببا كبيرا من الشجن فى رحلة الحياة إنما هو بفعل غياب حالة الرضا والقبول فى تلقي الحياة وما تجود به معايشة مختلف الوقائع والأحداث، تلك المنحة من الإستمتاع باللحظات العادية تماما بل وربما الراكدة من وجهة نظر البعض والتى ربما يراها البعض بلا ملامح، بأن يسعى لمنحها رائحة الرضا والفرح.

إنها نسبية الحاجات والموجودات والنظرة التى يمليها موقف الفرد فى الحياة، فيختلف مفهوم وغاية السعادة ويتبدلان أيضا، ويبقى إنه وحتى ندرك ذلك يظل الناس فى سعيهم يمارسون عراكاتهم اليومية ويخوضون مفازات غربتهم تدافعا نحو ما يرونه تحققا، حين تلك التحققات تزين نفسها فى هيئات شتى مادية ومعنوية مراوغة تبتعد حين تلوح كما الماء ينسل من الأيدى، وتستمر لعبة الإختفاء والمرواغة والمطاردة سعيا يتوازى مع طريق الحياة تعرجا واستواء ونموا.

وهكذا كانت التحققات ومفردات الفرح والبهجة والأمنيات دوما طائرا مغردا يحلق فى البعيد، ترنو العيون إليه تتأمله وتدعوه وتثبته فى الذاكرة شكلا ورسما وربما خيالا وانتظارا، ولما كانت بضدها تتميز الأشياء، لم يكن أبدا سعى البشر نحو إدراك شيئا من الغايات المرجوة أو مظاهر حضورها ليكون مهما لولا أنهم يعيشون الحياة على مقتضى "الكبد" مشقة وجهدا فيلتقطون طعم الفرح حين تحدث تقاطعاته القصيرة الوامضة المباغتة مع التفاصيل المكدسة من العاديات فيشرق مشمسا.

وفى محاولات الناس للإمساك ببالونات الفرح الملونة تختلف الوسائل والطرق، حيث يرى البعض طريقها فى الحيازات كفعل مادى صرف يترجمه سلوكا فى ما يحمله أو يسير به أو يقطنه أو يودعه، ويظل تراكم كل ذلك شاغلا يمنحه إحساسا أنه فى الطريق إلى غايته المنشودة وحيث السعادة فى الإنتظار، وحتى يقابل ذلك ما يطفئ توهج وهم السير فيحاول استدراك ما فات، ويحمل أيضا كتاب الحكايات من ذلك الكثير، ويحضر هنا لقاء تم مذاعا مع عالم عربى مغترب يعمل فى مجال العلوم، وكان اللقاء يلقى ضوءا على سيرته المهنية ومنجزاته وإن تطرق بالطبع لأبعاد إنسانية تجئ عابرة وسط التفاصيل المهنية الكثيرة، وبينما يتحدث باسترسال عن منجزه الطبى والعلمى فإذا به فى نهاية البرنامج يلقى بجملة موجعة تماما، حيث يقول أنه الآن وقد حقق كل ذلك وفى عمره هذا الممتد صار أفضل ما ينتظره هو رنين الهاتف من أصدقائه وأبنائه المغادرين أيضا والمهاجرين، وأنه قد يمضى أسبوعين لايرن فيهما جرس الهاتف وما أشق ذلك عليه، جاءت الجملة هكذا لتذكرنا بجوهر الحياة وامضا.

يذكرنا ذلك بعادة الكثير من الأفلام الأبيض والأسود الكلاسيكية وهى تنهى الفيلم بدراما مباغتة تبدو نقيضا لما جرى عليه زمن الفيلم طوال مدة الساعتين، وحيث تلك الدقائق الأخيرة وقد وردت فى حديث هذا العالم العربى ربما تمحو بثقلها كثيرا من مدة اللقاء التى تحمل انتصارات وزهوا فى الحياة، وهكذا الحياة نسبية فيما نظن ونسعى ونأمل ونتوقع، إدراك ذلك يمنحنا الأمل والكثير من الهدوء والتريث وأيضا الرضا بما جاء إلينا منحة ونعمة دون أن نمد عينينا طمعا وغيا إلى ما نظن أنه يتمتع به غيرنا فمن يدرى ما حال ودواخل الناس إذ ندرك فقط ظاهرهم ؟!.

وقد دخلت واستقرت مخايلات مفهوم البهجة لدى الناس بالانتقال من الشاشات ثم منصات السوشيال ميديا لتستقر فكرة وصف طرق البهجة للبشر وكمجال لمداعبة خيالاتهم ومجال للتسويق والربح أيضا، حين انتشر مروجو وصفات وطرائق البهجة، الذين يؤكدون أنهم يمتلكون خزائنها ومفاتيح الوصول إلى أبوابها الصلدة العنيدة، فقلما تخلو الرفوف والمكتبات من نسخ تلك الكتب الأجنبية الرائجة متعددة الطبعات، والتى تحمل عنوانا هو أقرب ما يكون لمداعبة أمنيات التححقات والبهجة لدى البشرية، وطبعا ظهرت كتب عربية مستفيدة من ذلك الرواج، ونجا البعض منها بأن قدم دراسات علمية طبية ونفسية واجتماعية عن السعادة ودوافعها، لكن الكثير جرى على عادة ملء فراغ القارئ بوصفات جاهزة عن السعادة، سهلة تشبه من يقنع البعض بكيف تأكل كل شئ وأى شئ ولا تبارح مكانك وتظل أيضا محافظا على رشاقتك.

ربما هذا السعى البشري المتواصل فى اقتناص لحظات الفرح مبرر ومفهوم وهو سلوك إنساني تماما يرتبط بطبيعة الإنسان وحيرته الكبرى فى الكون بين أمل ورجاء وانتظار، فالجميع ينتظر الفرح ولحظات التحقق الخالصة المراوغة، تلك التى دوما تلوح كنجوم فى السماء وكما يغنيها عبد الوهاب: "الدنيا ليل والنجوم طالعه تنورها".

إعلان