إعلان

رمضان .. أيام من الزمان "معدودات"

د.هشام عطية عبد المقصود

رمضان .. أيام من الزمان "معدودات"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:33 م الجمعة 15 أبريل 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أيام شهر رمضان- تلك القلائل المعدودات- والتي هى جسر زمني يطل على سريان شهور السنة وأيامها، هدأة تأمل والتقاطا لفيوضات التدبر والحكمة والتي هى خير كثير، تعلمنا أيامه فضيلة النظر في مسارات الكون، وإعادة تقييم الكثير من الأشياء والتي اعتدنا عليها مقام تواجد وحضور، وتأمل بعضها التي كانت شغفا أو رغبة، تلهفا أو تدافعا، فننظر لها في مرآة تنقيتها من زوائد الزخرف لتعود لطبيعتها المجردة كأنها تولد من جديد لا يزيد ذلك شيئا عن طبيعتها ولا ينقص منها شيء، فنعرف أين نحن وماذا نفعل وإلى أين نمضي وكم أنفقنا من ذواتنا جهدا وتفكيرا ولأى غايات؟.

من هنا ومن منظور الصوم الذي يمنع الإنسان عن واحدة من أكثر انشغالاته في الحياة وهو الانغماس المستمر في تناول الطعام والشراب، وحيث صنعا معا متضافرين حافز المضي والسبق وربما النهم البشري حين تطورا واتخذا أشكالا وملحقات لهما عبر الحياة تجعل توفيرها في تطلعاتها المستجدة جهدا وتدافعا جما، هنا والإنسان يسعى صائما تصفو جوارحه ويلتفت فؤاده قربا وعقله إقرارا بالنعم التي في حوزته، وحيث تبدو الحياة أهون وأبسط كثيرا وتعود كل مفازاتها وما اعتبره البعض ساحات خوضها ونطاقات وغيها هي مجرد سحابات عابرات حاملات للهم، وأنه كان يجدر أن تمر هينة في سلام ليحتفظ بنفسه طيبة ما شاء الله له ذلك أو هكذا ما ينبغى إذ يبقى الطيب والنافع وما سواهما زبد يذهب جفاء.

يعلمنا رمضان وصيامه أن الحكاية التي هى مُختلفة- في منظور كل فرد - في سردها ووقائعها وغاياتها قد لا تبدو من منظور الحياة نفسها وسيرها ضخمة أو فذة أو فريدة في تفاصيلها، وأن كل تلك المسيرة سنين عددا وأياما مددا وعيا حادا وانتباها زائدا وتدافعا كبيرا كثيرها وهم متجدد يجدر ترشيده ووضعه في عقاله ليكون دافعا للصالح ونافعا للذات وللناس ومثمرا لمن حولنا فيطيب ويبقى، وتخف حمول مشقة الحياة وكبدها، وحيث دوما هناك يقين يظلل بأن "ما عندكم ينفذ وما عند الله باق".

وهكذا علمتنا فيوضات رمضان تلك الفكرة المضيفة بأن الحياة يجدر أن تعاش بمقياس اليوم البسيط تدبرا وتفكرا وقلقا زائلا بطلوع نهار اليوم التالي، بينما لا ينفك معها السعي النبيل المستدام طوال الحياة نحو زراعة الجهد وإعمار المكان كل على قدر ما يستطيع سبيلا تطيب به المقامات عيشا وبقاء، هكذا تكون التحققات وهكذا يسمو الإنسان، وليس ذلك انقطاعا في رمضان لحالة زهد عابر طارئ سرعان ما يمضي، بل هو فرصة للبدء إذ تمنحنا تلك الأيام هدأة التوقف والتأمل، وستكون لكل إنسان من تجربته دلائل ومصابيح، لتكتشف مع مضى كل يوم أن هذا حقا هو ندى الحياة وزهرها وستستعيد القول أن من مر بيومه عاديا وطيبا فقد حاز الخير كله، هكذا يمنحنا رمضان قربا من كل البشر وتفهما وقبولا جما في مضمار سواسية الناس مهما اختلفوا واختلفت حظوظهم.

في رمضان وحيث تتسلسل الهموم ومعها الكثير من موجبات التفكير المؤرق تسرى فى النفس صفاءات التسليم، عبادا لله نبتغي رحمته وعفوه مدركين ضعفنا نذهب به نحوه لنبرأ من كبرنا حيث يعلم سبحانه وهو الخالق أنه ذلك الإنسان الذي هو "خلق هلوعا"، يعتقد أنه يمضي في مسارات حددها وقدرها أو يعتقد امتلاك ناصيتها بظاهرها البشرى كما نحب أن نرى، ليعي بالتدبر أن هناك دوما ما هو غير مرئي أو مدرك، اسمه دورات الحياة تسرى على الناس بل والأماكن الجامدة، فلا يملكون لها حولا.

تمضى أيام رمضان تلك المعدودات مسرعة وتترى نهاراته صوما ولياليه قياما مشاهد تتوالى عن سعادة الحياة حين تمضي مواقيتها هادئة طيبة تجمع المحبين على ما يقرب بينهم وتفصل بين المتخاصمين فيما أزعجهم إذ يتأملونه فيجدونه هينا، كأن الإنسان يصنع ذاكرته الفطرية من جديد ويدرك هنا أنه لا يبقى منه شيء إلا ما داخل الروح مستقرا هادئا يمنحها طمأنينتها.

إعلان