إعلان

عشر مغالطات تصيب تفكيرنا وطرائق الحوار بيننا

عمار علي حسن

عشر مغالطات تصيب تفكيرنا وطرائق الحوار بيننا

د. عمار علي حسن
07:00 م الخميس 20 أغسطس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعت بيقظة وإمعان كثيرًا من المناقشات والمحاورات والمداورات والسجالات التي تجري في ندوات الرأي والفكر بين أهل الخصوص والعموم، من منتجي المعارف ومتابعيها، أو بين المشتغلين فيها في وجه المنشغلين بها، بل حتى في الحلقات النقاشية الضيقة، وورش العمل، وسيمنارات المختصين في علوم إنسانية شتى، فإذا بي أسجل مع الوقت عدة عيوب في التفكير، لم تخل منها فعالية مما ذكرت، حتى وجدت نفسي كلما بدأ أحدهم في الكلام، أحيله سريعًا إلى واحدة من تلك العيوب، اللهم إلا عدد قليل، ينجو بنفسه من الوقوع في هذه المزالق التي يجب ألا تصم الباحثين والخبراء، فضلا عن عموم الناس، ممن يحرصون على التفكير السليم.

ويمكن استعراض هذه العيوب في النقاط التالية، وهي بالطبع قابلة للحذف والإضافة، وقد تصلح في إطار تحليل وتفسير أنماط التفكير الثلاثة "الدائري" و"الخطي" و"الشبكي":

1 ـ الأدلجة:

وهذه آفة كبرى، إذ يتمترس كل مناقش عند الأيديولوجية التي يعتنقها، متعصبًا لها، ويبدأ في قصف الآخرين بالكلمات، ساعيًا بكل ما أوتي من قوة أن ينتصر لرأيه ولو كان خاطئًا، ولموقف ولو كان معوجًا.

فالنقاش العلمي يجب أن يبدأ بتحييد كل هذه الحمولات العاطفية والذهنية، أو تقليل آثارها الضارة إلى أدنى حد ممكن، أو على الأقل تحويل الأطر التي ينطلق منها المتناقشون إلى أسباب للاختلاف المقبول والطوعي والطبيعي، الذي يغذي تعدد وجهات النظر، ويعمق التنوع الخلاق، فهذا يؤدي إلى انفتاح العقول والقلوب على بعضها البعض.

أما الذي يجري في الواقع فهو أن كل أيديولوجية تتحول إلى جدار يختبئ خلفه المتكلم، ولا يراه السامعون، الذين هم أيضًا مختبئون خلف جدران أخرى؛ ولأن كل منهم يلوي عنق الحقيقة أو يطوع الأفكار لتخدم أيديولوجيته وكأنه يقرأ ما بداخله هو، يخرج المتناقشون كما دخلوا، لم يضع كل منهم ما يعتقد في وثوقيته وطهره موضع مساءلة، ولا يُحدِّث ما لديه من أفكار بالحذف أو الإضافة أو التطوير والتحسين، بل قد يتباهى بأنه قد انتصر لنفسه وما يعتنقه، ونال كل النيل مما لدى الآخرين، والذي هو في نظره لا يستحق أن يتبناه أو يعتنقه أحد.

2 ـ ندرة الأفكار الخلاقة:

فكثير مما يطرح من آراء وأفكار لا جديد فيه، ولا بريق له، إنما هو في الغالب الأعم مأخوذ مما يتم تداوله بانتظام حتى صار ممجوجًا. بل إن الفكرة الخلاقة قد لا تلقى هوى عند أغلب السامعين أحيانًا، وكأن التجديد عيبًا، أو خطرًا، ولأنهم ألفوا نوعًا من التفكير التقليدي، واستراحوا له، ورتبوا عليه مصالحهم، ومن ثم يتم تجنيبها، بدلاً من أن يتفاعل الحاضرون معها بما يزيدها عمقًا وبريقًا وفائدة.

3 ـ الركود:

فالفكرة تُبدَى، أو تُفرض الفرضية، أو يُطرح السؤال، ويكون مقصودًا أن يتقدم نقاشها إلى الأمام، بتحليلها عميقًا، وعرض مختلف جوانبها، ما ظهر منها وما بطن، بغية فهمها من أبعادها كافة، لكن كثيرًا من المتكلمين يخذلون هذا الهدف، الذي يرومه التفكير العلمي، فيقفون عند نقطة فرعية، ويعيدون ويزيدون فيها، فيتوقف النقاش مكانه، ويمر الوقت دون أن يتحرك إلى الهدف منه.

ويحدث الركود هذا في الغالب الأعم، لغياب التراكم، والوقوع في فخ التفكير الدائري، إذ لا يأخذ بعض المتداخلين أو المناقشين في اعتبارهم ما قاله من سبقوهم إلى إبداء الرأي، فينطلقون منه، أو يبنون عليه، بل هم في الحقيقة يكررونه بألفاظ أخرى، ويحسبون أنهم يأتون بجديد، ويتصرفون هنا وكأنهم في عملية استطلاع رأي، أو انتخاب شخص أو شيء، حيث يكون التكرار أمرًا طبيعيًا.

ويحدث الركود بسبب الجدل العقيم، الذي يتقنه بعض النرجسيين المعجبين بذواتهم، وكأنه غاية في حد ذاته، مع أنه لا طائل من ورائه سوى إضاعة الوقت والجهد وتشتيت الانتباه، وزيادة الأحقاد والإحن.

4 ـ الشفاهية:

وهي ليست عيبًا في حد ذاتها، بل لها وظيفتها وطرائقها وفوائدها، لكن قد تكون هذه الفائدة في موضع آخر غير بعض المناقشات، التي لا يحرص حاضروها أن يُدوِّنوا ملاحظاتهم على ما يسمعونه، فإن أتى دورهم لعرض ملاحظاتهم، يكون كل شيء بات واضحًا أمامهم، فيزيد تركيزهم على الموضوع، ويتسم تعليقهم بالشمول، فتعلو نسبة الفائدة المرجوة منه. فهؤلاء يعلقون، غالبًا، من الذاكرة، فيقعون في كل عيوبها، ومنها الاختزال والإزاحة والتشتت. وقد يكون هذا راجعًا إلى كسلهم الشديد، أو إلى غياب الشغف بالعلم، الذي يخلق جدية في التعامل مع ما يطرح، والتفكير فيه، ونقده.

5 ـ إساءة فهم ما قيل:

فأحيانا يكون المتحدث قد قصد معنى أراد طرحه، أو رسالة سعى إلى إبلاغها، فيجد من يناقشه فيها قد حمل كلامه على غير ما يريد، وفهمه فهما انتقائيًا، ووفق ما لديه هو من تصورات مسبقة، أو لم تسعفه قدراته على بلوغ أعماق ما يطرح، وإدراك مراميه.

6 ـ الانحراف عن الجوهر:

حيث يخرج البعض عن القضية الرئيسية، ويشردون في دهاليز فرعية، بل يخرجون منها بعيدًا عن العنوان أو الموضوع محل النقاش، إلى أمور أخرى، قد تكون على النقيض تمامًا مما يراد بحثه، أو تعميق النقاش فيه. وقد يكون هذا عائدا إلى عيب في التفكير أو التركيز أو للإهمال وعدم الاستعناء، وقد يعزى إلى الخوف من طرح الرأي بفعل قهر سياسي أو إداري أو نفسي.

7ـ الاستعراض:

فهناك من يستغل النقاش في استعراض مهاراته اللفظية، أو حصيلته من المعلومات أو الأفكار السطحية، فيستعمل اللغة لا لإيصال رأي يصب في جوهر الموضوع، إنما كمحسنات بديعية، بعضها يكون قد صار مهجورًا في بطن القواميس العتيقة. ويهدف المتكلم من هذا إلى لفت الانتباه لألفاظه في حد ذاتها، وليس إلى المنطق الذي يتحدث به، والبرهان الذي يتبعه. وهناك من يكون لديه معلومات متناثرة تخص الموضوع محل النقاش، فيحرص على أن يقضي كل وقته في عرض تلك المعلومات، رغم أن بعضها قد لا يكون مهمًا، ولا يفيد في أن يتقدم النقاش إلى الأمام.

8 ـ الشكاية:

فهناك من يستغل وجود حلقة للنقاش أو ندوة أو مؤتمر علمي ليشكو إلى الحاضرين مواجعه، أو يذكر مشاكله، حتى لو كان ليس بها ما يمت بصلة للموضوع الذي التأم الناس من أجله، وفي هذا خصم من الهدف الذي يجري إليه النقاش حتى يبلغه. وقد يكون هذا راجعًا إلى عدم الدراية بمنطق "لكل مقام مقال"، أو لرغبة في البوح أمام الجميع، أو لمحاولة إشراكهم في إيجاد حل للشاكي أو تعزيته والتسرية عنه، أو لأنانية في طبعه؛ لأنه يتوهم أن الكل يجب أن يدوروا حول ما يعتبرها مشكلات ومعضلات في حياته.

9 ـ التناقض:

فهناك من يبدأ كلامه بموقف أو رأي، ثم يستطرد في الحديث؛ لنكتشف مع توالي الكلمات غياب أي انسجام في رؤيته، بل إن آخرها يتناقض تمامًا مع أولها. ومن هؤلاء من يتواصل بعينيه مع عيون متابعيه ووجوههم، فإن وجدها قد اكتست برفض ما يقوله أو إبداء الامتعاض منه، يغير رأيه تلقائيًا، حتى يحظى بالقبول والرضاء لدى الجمهور. ومنهم الدوجمائيون الذين يدورون حول أنفسهم، ويستغرقون وقتًا طويلاً في الثرثرة بلا مسارات تضبط ما يفكرون فيه، وينطقون به. ومنهم المدلسون الذين يتوخون رغبة الناس وليس مقتضيات العلم. ومنهم أيضًا الذين يفتقدون إلى الشجاعة العلمية، فإن أتتهم لحظة سرعان ما يبددونها خوفًا من أن تثير عليهم غضب الحاضرين. ومنهم الذين تتبدل مصالحهم بتبدل مواقعهم، فيقولون الكلام وعكسه. ومنهم من يعمدون التمويه والتضليل حتى لا يمسكون في موقف محدد.

10 ـ الثرثرة:

فكثيرون يقولون فكرتهم الأساسية مركزة في عبارات قليلة، ويصل معناها إلى آذان المنصتين إليهم، ويدرك هؤلاء المتكلمون أن سامعيهم قد فهموا ما يريدونه، ومع هذا يواصلون الكلام، دون أن يضيفوا شيئًا إلى ما قالوه في البداية، بل يسقط بعضهم في مزلق تفسير أو تأويل ما قال، وكأن السامعين لا عقل لهم ولا فهم كي يفسروا هم ما سمعوه، وبعضه يكون بالأساس ليس في حاجة إلى تفسير أو تأويل أو إيضاح. وهؤلاء يتوهمون أن أهمية المتحدث مرتبطة طرديًا بكثرة كلامه، وليست بقيمة وعمق وعلمية هذا الكلام، وبعضهم يعتقد أن شغله أطول وقت بين المتحدثين يضفي عليه أهمية، مع أنه لا يستحقها.

إعلان