إعلان

عن حلم المصريين

د. أحمد عمر

عن حلم المصريين

د. أحمد عبدالعال عمر
08:54 م الأحد 02 أغسطس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

علّمنا درس التاريخ أن الإخلاص والأمانة والصدق مع الله والوطن غير كافية للحاكم لضمان النجاح في بلوغ الأهداف الوطنية، وكسب ثقة الشعب، وتأسيس دولة جديدة وقوية، وإحداث طفرة اقتصادية وسياسية وثقافية، ومواجهة تحديات ومخاطر الداخل والخارج، بل لا بد من توفير حاضنة اجتماعية للسلطة ومشروعها، وحد أدنى من التوافق مع الجماعة الوطنية حول رؤيتها وخياراتها، ونظام سياسي قوي، ورجال دولة مؤهلين للقيام بأدوارهم بمهارة كبيرة ونزاهة وشجاعة ومصداقية، ومؤسسات دولة وطنية راسخة عابرة للأنظمة، تُقدم استشاراتها وتقوم بدورها بدافع وطني خالص.

ولعل أكبر شاهد على ذلك من تاريخنا الوطني هو الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، قائد ثورة يوليو 1952، التي احتفلنا الشهر الماضي بالذكرى الـ68 على قيامها، بعد أن جرت في نهر مشروعها الوطني مياه كثيرة، وتحققت بعض أهدافها، وفشلت بامتياز أهدافها الأخرى، ومر نظام الحكم الجمهوري الذي نشأ عنها بمتغيرات ومخاطر كثيرة.

فلا يوجد إنسان منصف يستطيع أن يتهم الرئيس عبد الناصر في وطنيته ونزاهته ومحبته لوطنه ولجموع الشعب المصري، وأنه عاش ومات زعيماً وطنياً كبيراً، وإنساناً وسياسياً في قمة النزاهة الشخصية والإخلاص لمصر وشعبها، ولكنه كما قال فيه الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم: "عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت".

ولم يعصمه إخلاصه وتجرده وحسه الوطني وحُسن نوياه من قيام نظامه بأخطاء كبيرة ومدمرة، اعترف هو شخصياً بها في بيان 30 مارس 1968 الشهير الذي صدر بعد الصدمة التي أحدثتها في دوائر الحكم نكسة يونيو 1967.

وقد جاء بيان 30 مارس بمثابة برنامج للأزمة لرصد ومعالجة الأسباب التي أدت للنكسة، وقام بوضع خطة للعمل الوطني وخريطة للإصلاح السياسي الداخلي، ولإجراء تغيير عميق في رؤية وأسلوب وممارسات الحكم من أجل صنع مستقبل مزدهر لمصر والمصريين وتجنب أخطاء الماضي.

وقد اعترف الرئيس جمال عبد الناصر في بيان 30 مارس، بشجاعة منقطعة النظير، بالأخطاء التي وقعت فيها ثورة يوليو 1952، بعد 16 عاماً من حكمها، وقام من خلاله بالاستجابة لطموحات الأجيال الجديدة من الشباب، وقدم وعدًا حاسماً بإجراء إصلاح سياسي كبير، وإزالة أي تناقض بين السلطة والجماهير والنخبة والجماعة الوطنية، وإعادة بناء الثقة التي اهتزت بينهما.

وفي هذا الصدد كتب الراحل الأستاذ صلاح عيسى: "أدرك عبدالناصر بذكاء سياسي أنه لا جدوى من تجاهل حقيقة أن هناك عوامل موضوعية وراء سخط الشعب، وأن عليه أن يسعى للالتقاء مع الساخطين في منتصف الطريق؛ فقدم رؤية للمستقبل يمكن أن تكون أساساً للتوافق، وهو ما أتاح له أن يضمن - إلى حد كبير - هدوء الجبهة الداخلية واصطفافها خلفه، خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكمه".

وهذا يعني أن بيان 30 مارس قدم طوق نجاة لمشروع الدولة الوطنية في مصر التي تأسست على شرعية ثورة يوليو، وحاول إصلاح علاقتها بالمصريين، وأعاد بناء جدار الثقة المتصدع بينهما، وكان قادراً على عصمتها من تكرار الأخطاء، وصنع مستقبل مغاير للدولة الوطنية المصرية، يُحقق طموحات وآمال الشعب فيها، ولكنه تحول بعد وفاة الرئيس عبد الناصر المفاجئة عام 1970 إلى مجرد حبر على ورق.

وبعد ذلك دخل مشروع الدولة الوطنية التي تأسست على شرعية ثورة يوليو مع نظامي حكم الرئيس محمد أنور السادات والرئيس محمد حسني مبارك - متاهة كبيرة، واتسعت الفجوة بين ممارساتهما وسياساتهما الداخلية والخارجية ومبادئ وأهداف ثورة يوليو. وأصبح لدينا معهما نظام حكم بلا أيديولوجيا واضحة وموجهة، وبلا مشروعية أخلاقية، وفقدت الدولة المصرية بسبب أخطاء حكمهما الريادة والدور والمكانة، حتى اتسع الفتق على الرتق، وقامت ثورة 25 يناير، التي كادت تذهب بمشروع الدولة الوطنية المصرية الحديثة إلى المجهول وتفقدها هويتها ثم وحدتها ووجودها.

وأظن أن ثورة 30 يونيو كانت بمثابة طوق نجاة للدولة المصرية التي تأسست على شرعية ثورة يوليو 1952، وهي عندي مرحلة ثانية لها.

ولكنها إلى الآن، وبعد سبع سنوات على قيامها لم تعط طابعاً مميزاً لها، ولم تحدد أبعادها الفكرية ومرجعياتها، ولم تصنع رجالها القادرين على تحقيق أهدافها، وخدمة مشروعها الوطني، وضمان بقائه واستمراره مهما تتغير الأنظمة والأسماء.

كما أنها لم تحقق، بشكل واضح، يُرضي الناس - التغيير المنشود الذي لا يزال المصريون يحلمون به، وينتظرونه من الدولة منذ عبّر عنه بيان 30 مارس 1968، وهو: "أكبر من أن يكون مسألة تغيير أشخاص، وإنما التغيير الذي نريده يجب أن يكون أكثر بعداً وأكثر عمقاً من مجرد استبدال شخص بشخص.

إن التغيير المطلوب لا بد أن يكون في الظروف وفى المناخ، وإلا فإن أي أشخاص جدد في نفس الظروف وفي نفس المناخ سوف يسيرون في نفس الطريق الذي سبق إليه غيرهم.

إن التغيير المطلوب يجب أن يكون فكراً أوضح، وحشداً أقوى، وتخطيطاً أدق؛ وبذلك يكون للتصميم معنى، وتكون للإرادة الشعبية مقدرة اجتياح كل العوائق والسدود، نافذة وواصلة إلى هدفها.

وهذا التغيير المنشود هو موطن الأمل للناس في مستقبل مختلف، ومنبع المشروعية الأخلاقية لأي نظام حكم يُريد أن يُحدث بوجوده فارقاً، وأن يترك أثرًا إيجابياً لا يمُحى من وعْي المصريين المعاصرين ووجدانهم وتاريخهم، وهو الضمان كذلك لوحدة الجبهة الداخلية، ودعم الشعب والجماعة الوطنية الكامل لخيارات الحكم في مواجهة تحديات ومخاطر الداخل والخارج.

إعلان