إعلان

شكوى قلم

نهاد صبيح

شكوى قلم

نهاد صبيح
08:10 م الجمعة 17 يوليو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كان بين أصابعي طيعًا مستكينًا لا يكل ولا يمل، ولكنه اليوم فاجأني بشكوى فقال لي: يا سيدتي... كفى كفى لم أعد أتحمل محبسي بين أصابعك.

فقلت له: من يتكلم... أأنت قلمي أنا!، أم أنك غريب عني؟، وكيف تجرؤ أن تقول لي كفى؟!

يا سيدتي... أنا قلمك نبض قلبك ومشاعرك التي تتدفق بالفرح تارة وبالحزن تارات، بالحكمة مرة وبالغضب مراتٍ ومرات... كنت لك طائعًا مذعنًا لم أشتكِ يومًا مما تكتبين، ولم أعاتبك يومًا على إهمالك لي..

إهمالي لك..؟! أتشتكي وأنت جماد؟!

صحيح إنني جماد، ولكن ما عبرت إلا عن مشاعر وأحاسيس ومواقف إنسانية، كم حفرت على الورق أحلامًا وطموحاتٍ وآراء بشرية، كم عانيتُ معكِ من الظلم والظالمين، كم بكيتُ معكِ، وكم ضحكتُ، وكم ثورتُ، حتى في أيام سكاتكِ، لم أكن صامتًا... كم عانيتُ من قصف وكم انبريتُ من أجلكِ، وكم احتملتُ، وأنت لا تشعرين.

يا الله... ألا يسعدكَ أن تكون قلمي؟!... آستعرت نكران الجميل من البشر؟!، ألا تذكر لي شيئًا جميلًا، أو معروفًا طيبًا؟!، عشتَ معي كل لحظات حياتي بحلوها ومرها، أدخلتُكَ قصور أحلامي وآمالي، كنتَ الطبيب الذي رافقني منذ بداية الحمل حتى وضعتُ جميع مؤلفاتي، كنتَ السند، كنتَ الحرية في جوهر معناها، كنا سويًا تحت أمطار لم تسقط علينا منها قطرة، وحرارة لم تلهب أجسادنا، سافرنا دون انتقال، حاورنا ملوك الماضي وناقشنا صناع المستقبل، وأكلنا وشربنا حلوى الدنيا، وشهد الجنة.

وماذا بعد يا سيدتي لماذا لم تكملي؟!... أرجوكِ أكملي!.

ألم يكفيكَ كل هذا يا قلمي؟!، لقد وهبتكَ حياتي... ألا تكفيكَ؟!

نعم عشتُ معكِ كل ذلك يا سيدتي وأكثر... ولكن... ألم تنتبهي إلى أنني تحولتُ إلى لوحة أزرار، لوحة مفاتيح تكتبين عليها الحرف بكبسة زر...؟!.

ولكنكَ يا قلمي ستظل كمفهومٍ ورمزٍ موجودًا مهما اختلفت طرق الكتابة، فالتطور الحديث لا يمس الجوهر ولا المفهوم، التطور يؤدي إلى الرفاهية بتحسين الوسائل، وهل ننكر أن اختراع الآلة الطابعة في عام 1440 نقل البشرية من العصور الوسطى إلى آفاق الحداثة والتقدم.

أعلم ذلك تمام العلم سيدتي، فنسخ الكتب بالقلم كان يستغرق وقتًا طويلًا ومجهودًا كبيرًا، ولكني لم أقصد عملية التطور في أسلوب الاستخدام، أنا لا أتحدث عن الشكوى العامة أنا أشكو بشكلٍ خاصٍ. لم أعد أفهمكَ يا قلمي، قل لي مما تشكو وممن تشكو؟!

قلتُ لكِ يا سيدتي إنني أشكو منكِ أنتِ وليس أحدًا غيركِ...

أنا تشكو مني أنا يا قلمي... لماذا؟!

إنكِ يا سيدتي دائمة الفكر والتفكير، تسعين إلى الكمال والاكتمال!

وماذا يضر يا قلمي؟! إن كثيرًا من الكتاب المفكرين، وأيضًا المصلحين هذا هدفهم ومبتغاهم في الحياة...

محال يا سيدتي... محال... لن تكتمل الحياة أبدًا، فكمالها انتهاء وفناء.

وضح لي أكثر يا قلمي فأنا غير مستوعبة ما تقول!

يا سيدتي سعيكِ الدؤوب نحو الكمال كغاية أراه غير مقترن بمفهوم حتمية تلازم الخير والشر ما بقيت الحياة.

وهل هذا مدعاة لأن أتوقف عن المحاولة للوصول للكمال؟!

لا أبدًا؛ لأن هذا السعي هو ما يكسو الحياة ألوانها الجميلة، ولولاه لأصبحت الحياة صحراء جرداء لا خير فيها ولا رجاء... إن غاية المبتغى من شكوتي يا سيدتي: أن تدركي مفهوم النقصان كما أدركتِ مفهوم الكمال، فالحياة قائمة وستظل قائمة على النقصان؛ لأنها ليست جنة، وإنكِ إذا أردتِ أن تعيشي في كمال الجنة، فعليكِ أن تكوني من الملائكة... فلتتعايشي بفكرة التقبل... تقبل الخطأ... تقبل النقصان... وتقبل أيضًا فكرة الإصلاح... وهذه هي شكواي.

شكوى قلم

إعلان