إعلان

بروفايل المدوِّن

د. محمد عبد الباسط عيد

بروفايل المدوِّن

د. محمد عبد الباسط عيد
10:52 م الجمعة 22 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا نحتاج هنا أن نؤكد على هيمنة الصّورة على عالمنا، وبسبب هذه الهيمنة تراجعت مفاهيم كانت أساسية وتقدمت مفاهيم أخرى مع هذه الآلة الدقيقة "الكاميرا"، ومع كاميرا الموبايل بشكل خاص، واتصالها المباشر بالصّفحات الخاصّة والعامة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، لقد أصبحت الصورة الفردية حالة مهيمنة، وصار بمقدور الإنسان أن يلاحق الزّمن والأحداث ويرسل الرسائل الخاصة والعامة، وسنعود إلى هذا الموضوع بتفصيل أكبر في مقالة لاحقه.

تتحدد الصّفحات الفردية أو المجموعات بكل أشكالها بالبروفايل الذي يختزل دورها وشكلها وغير قليل من رسالتها، فالبروفايل يمدّنا بمعلومات منتقاة عن المدوّن، ويقدم التعريف الكليّ للصفحة جانبًا من مؤهلات صاحبها ومزاجه الخاص، واهتماماته العامة، ويمكن بمتابعة منشوراته في فترات محددة بعيدة أو قريبة أو متوسطة أن نرسم صورة كلية له، فنعرف شيئًا من سيرته، وما حصله من تعليم ومؤهلات، والوظائف التي شغلها...الخ.

وهذه كلها معلومات ترسم صورة لصاحب البروفايل لن تؤثر على الطريقة التي نتلقى بها منشوراته ومستوى تفاعلنا معها فحسب، وإنما تشكل بذاتها "حجة" يصعب فهم منشوراته بعيدًا عن تأثيرها علينا، خاصة حين يتحدث بشكل عام (ببلك) في موضوع يتعلق بتخصصه، هنا تغدو صورته جزءًا من الخطاب، حيث تضفي على النص (المنشور) طاقة إقناعية تكتسبها من صورة صاحب البروفايل حسب ما استقرَّت في أذهاننا.

يبدو البروفايل- في هذا الصدد– أقرب ما يكون إلى "اللوجو" في الخطاب الإشهاري، فهو يختزل التوجهات والانتماءات الثقافية، وإذا تأملنا ذلك داخل ثقافة مثل ثقافتنا، تنشغل بقضايا يومية كبيرة، حول الدين والسياسة والعلاقة بين الأغنياء والفقراء.. بدت لنا الصورة الفوتوغرافية التي يضعها المدوِّن جزءًا من الصورة الذهنية التي يريد لها أن تستقر في أذهان متابعيه، بكل حمولاتها الشكلية والفكرية والأخلاقية، إنها أقرب ما تكون إلى الأيقونة التي تختزل العلامة وتكثفها وتطابق بين الفكرة والصّورة.

وعلى سبيل المثال، حين يضع المدوِّن لقطة رسمية وهو يرتدي بدلة ورابطة فإنه بذلك يقدم تصورًا محددًا عنه إذا وضع صورة وهو يرتدي الكاجوال، أو الجلباب البلدي، وبالتأكيد ستختلف إذا كان المدوِّن امرأة لا تضع غطاء على رأسها مقارنة بصورة امرأة أخرى تضع غطاء الرأس..الخ. ويمكن بالقدر نفسه تتبع خلفية الصورة، كأن تكون حديقة عامة أو مكتبة المدوّن الخاصة، وقد ازدحمت فيها الأرفف بأشكال مختلفة من الكتب، وسيكون الأمر أكثر تركيزًا إذا تأملنا صور الغلاف، وعلاقتها بصورة البروفايل.

وكل هذا يقدّم صورة ذهنية للمدوِّن، ويحمل رسائل ضمنية تؤثر على مضمون البوست وقدرته على إقناعنا، بحيث تغدو تلك الصورة جزءًا من البوست، ولأنناء إزاء وسيلة طيَّعة وليست جامدة، فهي توفر للمدوّن فرصًا عديدة لتأكيد صورته، وإعادة تحديثها باستمرار، بقدر ما تمنحه الفرصة للتأكيد على موقفه من القضايا الكبيرة المثارة في وطنه أو ثقافته، وعلى سبيل المثال ما يطرحه الفيس عليه من تأطير صورة بروفايله في المناسبات والأحداث المخلتفة، مثل شهر رمضان، أو دعوات البقاء في المنزل بسبب فيرس "كورونا" أو في قضايا تشغل الرأي العام مثل قضية "تيران وصنافير"...وقد يقترح عليه إطارًا خاصًا وضعه أحد الأصدقاء/المتابعين مثل غلاف كتاب جديد مثلا.

لم تكن صورة المؤلف/ الكاتب/ المدوِّن محددة ومؤطرة موضوعيا ومعرفيا بأكثر مما هي الآن، حتى توشك أن تكون بذاتها أيقونة شديدة التكثيف لانحيازاته، والغايات العامة لما ينشر ويدوّن، وما يتوقعه المتابعون منه، وكيف تنتقد تفاعلاتهم وتعليقاتهم هذه الصورة حين يصدع أفق توقّعهم في تدوينة أو بوست أو موقف ما.. بالتأكيد يمكننا الحديث عن تأثير هذه العلاقة المباشرة والآنية بين المدوّن ومتابعيه على مواقفه وآرائه، فنحن هنا لسنا إزاء كاتب مقالة، يكتبها في غرفة مكتبه، ثم يرسلها إلى جريدته، ولا يتصل بقرائه بشكل مباشر؛ نحن هنا إزاء المدوِّن الذي يكتب وينشر ويتلقي تعليقات المتابعين فور الانتهاء من منشوره، وعرضه عليهم، وهذه نقطة لها وجهان، فقد تدفعه دفعًا إلى المراجعة، وقد تؤدي إلى اهتزاز صورته لدى المتابعين، وربما يصل ذلك إلى حدّ القطيعة والاستبعاد (البُلك block، أو إلغاء الصداقة، أو إلغاء المتابعة) خاصة حين تكون صورته في أذهان المتابعين مشحونة بالإيديولوجيا.

ولا تتوقف الخطورة عند هذه النقطة، وإنما تتعداها إلى كُليّة الصفحة وما يقدم فيها منذ بداية الحساب، وإذا كان المدوِّن – بشكل عام - حريصًا على تقديم صورة نقية له، أو صورة منسجمة عبر استدعائه لروابط المنشورات القديمة ووضعها في بوست جديد، أو الاكتفاء بعبارات من قبيل: "سبق أن كتبت هنا قبل عام أو قلت هنا كثيرًا...". فإذا كان المدوِّن حريصًا على تقديم صورة مثالية خالية من التناقضات، فعليه أن يقدم كل ما يؤكد ذلك، وإلا فهو عرضه لسيف الراوبط القديمة لمنشوراته أو (الاسكرين شوت) الذي قد يواجهه به أحد المتابعين.

تبدو صورة المدوّن إذن مهمة، في استمالة القراء والمتابعين، وفي علاقتها بما يتناوله من قضايا وما يطرحه من أفكار، أو ما يشغله بشكل عام، وهذه الصورة لها دور واضح في تحديد نوعية المتابعين، وطالبي الصداقة، وفقًا لقاعدتي: الاتفاق والاختلاف مع صاحب البروفايل، ولعلنا لو قمنا بدراسة إحصائية لعينة من البروفايلات فقد نكتشف بعدًا مهمًا في طريقتنا في التفكير؛ فهل نتابع من يتفقون معنا في التوجهات والانحيازات، ونتجاهل متابعة الذين يختلفون معنا؟ وهل هذه سمة إنسانية عامة، لا تتعلق بثقافة معينة، وكأنَّ النفس تميل إلى من يتفق معها وتحب من يشيد بها؟ أم تُراها سمة ثقافية وآفة تربوية، تجعل الإنسان يميل إلى تكرار ما في رأسه وترسيخ قناعاته عبر تدوينات الآخرين؟

يبدو أن صورة المدوِّن بكل حمولاتها الشّكلية والدّلالية عظيمة التأثير، وهي بالضّرورة تنقلنا إلى صورة المتابِع (بكسر الباء)، وكما تقول حِكْمةُ وسائل التواصل: قل لي من تتابع، أقل لك من أنت...!

إعلان