إعلان

في مجموعة "كان لك معايا"... تتعدد القصص والموت واحد

د. عمار علي حسن

في مجموعة "كان لك معايا"... تتعدد القصص والموت واحد

د. عمار علي حسن
07:23 م الأربعاء 22 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

حين يبدع كاتب في ريعان شبابه قصصًا عن الموت فقد يعطينا انطباعًا يتوزع على اتجاهات عدة، فإما هو يائس لا يرى في الحياة ما يستحق أن يبقيه على قيدها، أو زاهد في كل ما يتكالب عليه الآخرون ويتناحرون بلا حد، وإما هو حكيم قد وصل وهو على باب الابتداء إلى آخر ما يتم الانتهاء إليه في آخر الرحلة، شاء المرء أم أبى، أو هو جسور يشاكس ما يهرب منه أغلب الناس، ويعطون ظهورهم لمن يستمرئ الحديث فيه، ويطئطئون رؤوسهم لحظات حين يسمعون من يقول لهم: "من أراد واعظًا فالموت يكفيه"، ثم ينصرفون سريعًا إلى الدنيا يغرفون منها ويطلبون المزيد، وإما هو يبحث عن تحقيق وعد بحياة أفضل في العالم الآخر.

لم يكن عبدالكريم الحجراوي واحدًا من هؤلاء، في حقيقة الأمر، إنما كان يمثل اتجاهًا يرى في لغز الموت الغامض السرمدي فرصة للدهشة والاستغراب والمساءلة، وموضوعًا لا تنفد قصصه المباشرة، أما غير المباشرة وهو ما جادت به مجموعة: "كان لك معايا" فمنه ذلك الذي يحول الموت إلى فنتازيا، يتخلى بها الراوي عما يعتريه من حزن واكتئاب وانسحاب وخوفٍ، ويطلق إياه في قلب مغامرة ضاجة بالفرح والرفض والرغبة في المعرفة.

أعطى الكاتب مجموعته عنوانًا فرعيًا أو هامشيًا دالاً يقول: "لا أريد أن أموت الآن"، لكننا حين نمضي في القراءة نجد أن هذا الهامش صار هو المتن، منذ أول عبارة في أول قصة: "أدرك تمامًا أن الموتى لا يعودون إلى الحياة، ولا يسيرون في الشوارع بعد موتهم"، وهي مسألة تؤكدها العناوين، فبعضها يذكر الموت مباشرة مثل قصص: "جين الموت"، و"لا أريد أن أموت الآن"، و"الموتى يسيرون في الشوارع"، وبعضها تشي عناوينه بالرحيل النهائي أو ما يقع ويفضي إلى الموت، مثل: "يبكون حولي"، و"انفجار"، و"تسيل دماؤك أنهارًا"، وهناك عنوان يشير إلى موت الجميع وهو "القيامة". وحتى القصص التي يمكن أن تعطي عناوينها معاني أخرى، تنطوي على حالة حزن وقنوط وخوف مثل: "ربما ذئب"، و"كراهية معلنة"، و"رحلة طويلة"، و"الشمامة".

ولا يكتفي الكاتب بالتعبير عن إدراكه هو شخصيًا للموت، وتأثيره في نفسه، إنما يعرضه أحيانا كما تمثلته القريحة الشعبية في صعيد مصر، فأنتجت على ضفافه "فن العديد" وهو حداء حزين مشعور، وخلقت طقوسًا متوارثة، يصوره الراوي في قصة "يبكون حولي"، بقوله: "أمي أخذت في النواح برفقة زوجتي، وساعدتهن إخوتي البنات بدأن في اللطم، ووضع التراب على رؤوسهن فاجتمع بقية النسوة، وأخذن في المجيء والذهاب بطول الشارع يرددن الأغاني الحزينة:

كنت فين يا وعد يا مقدر

جوه خزانة وبابها مسكر

كنت فين يا وعد يا مكتوب

جوه خزانة وبابها مغلوق".

إننا إذن أمام نص قاتم قانط، لم يخفف من غلوائه سوى النزوع إلى الفانتازيا، التي يمتلك الكاتب فيها مهارة واضحة، تجعل السرد ممتعًا وعميقًا وحافلاً بالجمال الذي تصنعه لغة تنطوي على مفارقات وصور غير تقليدية وخيالات هائمة واستدعاء لموروث مغموس في الشجن، يذكرنا في جانب منه بعالم يحيى الطاهر عبدالله، الذي أعتقد أن الحجراوي إن مضى في طريقه السردي سيبني عليه، ويضيف إليه.

ووصف النص بالقنوط لا ينطوي على مبالغة، فها هو يقول دون مواربة في قصة "جين الموت" ما يؤكد هذا: "إذا بلغت الثلاثين يكون الموت قد أبلغني عذره. أربعة أعوام تفصلني عن ذلك العمر، ولم أحقق ما كنت أصبو إليه، فهل أعشم في الثلاثين أحقق فيها ما فاتني. وأتبجح بعدها بطلب ثلاثين أخرى هي والعدم سواء. والعمر يمر دون طائل، تدهسني عجلاته الحديدية بسرعة متناهية، لماذا أتيت إلى الحياة؟ ما الهدف؟ ما الغرض؟ سؤال قديم جديد، والإجابة لا شيء سوى العذاب. فرح عابر كذاب، وحزن مقيم جائم على الصدر".

هذا الشعور باللا جدوى أو الرغبة في فهم أسباب مقنعة للوجود هي حالة تسيطر على بعض الناس، لا سيما الذين يتمتعون بحس مرهف يجعلهم ينظرون إلى الدنيا باستهانة، أو على بعض من يتعجلون نجاحًا مبهرًا، ويطمحون إلى ما هو فوق طاقة مجتمع يضيق الفرص أمام كثيرين أو يقتلها، أو الذين لا يتحملون مضي العمر بينما الفجوة تتسع بين ما يرغبونه وما يستطيعون تحقيقه بالفعل، وقد لا يكون هذا سوى عدم إدراك لبعض قوانين العيش، وما يفرضه السياق الاجتماعي على الكل من تحديات تحتاج إلى صبر ومثابرة.

تعطينا القصة الأولى "كان لك معايا" تفسيرًا لهذه الحالة، فبطلها انهزم في تجربته العاطفية الأولى، ليس لأنه أحب من طرف واحد، كحال كثيرين، ولا لأن الحبيبة خانته أو هجرته، إنما لأنه لم يستطع تجاوز ما يفرضه الفقر على أصحابه من قلة حيلة وتردد وخوف، وما يدفع به الطموح أصحابه إلى التخفف من أي أعباء تحرمهم من الطيران بينما أجنحتهم مهيضة. لهذا لم يستطع بطل القصة أن يكون لفتاة أحبته، وظلت مخلصة له حتى بعد زواجها، فواصلت الحديث إليه عبر رسائل "فيسبوك" باحثة معه عن ملاذ، لكنه خذلها، أو استسلم لخذلان ظروفه له، أو كان واقعيًا حين خاف عليها من أن تربط مصيرها به وهو لا يزال في مهب الريح، فراح يردها ويصدها، حتى أنهت حياتها بيدها، لتتركه لفجيعة وشعور بذنب، جعله يفتح صندوق الرسائل، ليجد رسالتها الأخيرة: "هل ما زلت تحبني"، وحين يجيب: "نعم. ولن أحب بعدك"، تقتحم عيناه عبارة "فشل في الإرسال"، فصاحبة الحساب رحلت، وانتهى كل شيء.

هل يمكن أن تكون هذه القصة مفتاحًا لقراءة ما يأتي بعدها؟ يمكن أن تكون الإجابة المتعجلة هي: نعم. لكن الكاتب لم يلبث أن فارق مساحة المحب الموجوع بعد فشله في الارتباط بمن يحب، ليسيح في عالم آخر، ينظر إلى الموت من عدة زوايا أو جوانب، غير تلك المتصالحة معه. فالبطل في كل قصة يعانق الموت ليس عن رضا، إنما لأنه محسور على فراق أحبة، أو خائف من كيانات خيالية كتلك التي يتداولها الناس في حكايات الليل وأساطيره بريف الصعيد، أو يصيبه رعب من أحلام ليل أو كوابيس تزوره باستمرار يرى فيها ما لا يراه من ينام هانئًا أو قانعًا أو متنعمًا بدفء الحياة، أو ملتاعًا من مرور السنين دون الوصول إلى ما كان قد حدد لنفسه بلوغه كل عام، وكأن الحياة تجري بالضرورة وفق مخطط محكوم، أو خائفا من الغربة التي فرضت عليه، وهو يجري وراء حلمه، فنقلته من السكينة إلى الصخب، ومن الألفة إلى الوحشة، ومن الآمال الغضة إلى الحقائق القاسية.

وفي القصة الثانية نحن أمام مشهد عجيب لأولئك الذين يتحلقون حول جثة آدمي، لا يدرون عن أشواقها الدفينة شيئًا. وفي الثالثة نعرف سببًا لهذا الولع بالتفكير في الموت، إذ يقول بطل قصة "ربما ذئب" ما يعزز هذا: "إنها بداية دخولي إلى الاكتئاب، ما أوصلني إلى هذا الهم الذي أنا فيه". وفي أخرى نجد أنفسنا أمام طفل مسكون بالفزع من شخصيات مختلفة، عرف عنها من حكايات الكبار للصغار لتخويفهم من الشرود بعيدًا عن المنازل، تمثلها هنا ما يسميها "الشمَّامة" التي تخطف الأطفال، حيث "تقوم بتخديرهم عن طريق وضع منديل على أنوفهم، ثم تسرقهم وتبيعهم، وربما تقطع أجسادهم قطعة قطعة وتطبخها وتطعمها إلى أطفالها الصغار"، أو نجده شخصًا يتقلب على فراغ بين روحه وجسده في قصة "كراهية معلنة"، حيث يصف الراوي بطلها قائلا: "ليس عدوانيًا هو بطبعه، لكنه حين يقوم من رقدته يتحول لشخص آخر كأن جسده كان يرفض أن تعود إليه الروح، لكن الروح أرغمته على ما يكره"، وقد يكون شخصًا متوجسًا من كل ما حوله ويعتقد في أنه يشكل خطرًا عليه، فهو يرى نفسه ماضيًا في "رحلة طويلة، في طريق مجهول غير مأهول بالبشر، تسكنه ذئاب وثعالب وعقارب وثعابين وأشياء أخرى وسط جبال وتلال وسهول"، أو هو ذلك المغدور، كما تنبئنا قصة "القيامة"، حيث يقول بطلها: "لم أكن وحدي حين مت. رافقتني طعنات الغدر، وحرستني ضحكات الأصدقاء، ودمي الذي سال على الأرض أمامهم، وخناجرهم التي قبلت قلبي بشوق"، أو يرى نفسه "طفلاً شريرًا مصابًا بأمراض العالم كله"، كما في قصة "رغبة" التي يريد بطلها أن يفجر أشياء داخله؛ ليقتل الطفل الذي يسكنه ولا يريد أن يكبر. ولم يلبث أن يأتي الانفجار، لكن في قصة أخرى، ويكون مكانه القلب، الذي لم يعد يتحمل قصة عشق ثالثة، تورثه وجعًا وكمدًا ونكدًا مضنيًا.

ففضلا عن القصة الأولى، تستمر التعاسة في الحب عبر قصة أخرى هي "لا أريد أن أموت الآن" حيث تموت "داليا" التي عاش معها البطل عشرة أيام يصفها بأنها كانت "قمة النعيم"، لتأتي خاتمتها المفجعة: "ها أنا جالس بجوار قبرها، أنتظر ساعتي لأكون بجوارها في عالم أفضل إلى الأبد. أعرف أنها ستعود لتقبض روحي، لتبدأ قصتنا من جديد بعدها".

لقد وضع الكاتب نفسه في تحدٍ شديدٍ، وهو في أول طريق عفيةٍ مع السرد، حين جعل قصص مجموعته الأولى تدور حول موضوع واحد هو "الموت"، كان من الممكن أن يستهلكه غيره في قصة واحدة، لا سيما إن كان على عجلٍ من أمره، لكن مخيلته الثرية أسعفته، بما لم تسعفه به تجربته التي لا تزال قصيرة مع الحياة؛ لينسج على المنوال نفسه كل هذه الرؤى الفنية التي تشاكس الموت أو تراه أو تتحايل عليه أو تواجهه أو حتى تهرب منه في فزع، أو تسخر من هجومه المبكر، أو تستدعيه، أو تريد فهم لغزه المحير، ويصيغ كل هذا في سرد عرم، ينفسح فيه الطريق للسجية، أو العفوية، أكثر من التدبير وانتظار ما يفعله الذهن مع ما يجود به الوجدان أو النفس الهائمة التي ترى القص أحيانًا نوعًا من التنفيس عن مكبوت نفس لوعتها تصاريف الحياة.

لكن الكاتب تمكن من تحويل ما يخصه ويوجعه إلى هم عام، أو انشغال جمعي، فكم هؤلاء البشر الذين عاشوا هذه الأحاسيس وهم على أول الطريق، في ظل حال بائس، وظرف قابض، يصنعان قلقًا حيال أيام تعطي ظهرها للموهوبين، الذين يخلصون للحرية التي هي شرط ضروري للكتابة، أو أولئك الذين يذهبون إلى ما يردون من غير ظهر سوى ما يؤمنون به.

إن المسكوت عنه في هذه المجموعة قد نراه نقيضًا لما تشي به مباشرة، ألا وهو حب الحياة، بل التتيم بها، شرط، أن تدرك وتعي وتستجيب لما يأمله أبطال القصص، فهم منجذبون إلى العيش حتى، وهم يقفون على حافة الموت، إذ أن انشغالهم بالموت لا يؤكد في الغالب رغبة أكيدة في الرحيل، بقدر ما هو السعي نحو عيش مستقيم، تعني استقامته شيئا من التحقق، ومفارقة شظف العيش، وميلادًا مسربًا من الأمل في أن الغد أفضل من اليوم.

فأبطال هذه القصص في أعماق يأسهم يولد الأمل، وإلا ما كانت هذه المحايلة على الموت ومراودته، بل التعامل معه على أنه لحظة انتقال إلى عالم أفضل، أو إلى الخلود الأبدي، متطابقا في هذا مع كثير من الرؤى الدينية. ومثال على هذا نهاية قصة "ما لم يقله جلجامش"، التي تقول: "لم يمضِ الكثير من الوقت حتى نحرته كالشاة بسيفي، فسالت دماؤه السوداء على أرض الموت، فتحولت إلى جنة خضراء بديعة ألوان زهورها، عصافيرها لا تكف عن العزف؛ لتفتح الأبواب المغلقة للأرواح".

كما أن الموتى لا ينقطعون عن العالم الدنيوي كلية، بل بوسعهم العودة بأرواحهم، ففي القصة قبل الأخيرة بالمجموعة يقول الراوي "أرى الموتى يسيرون في الشوارع أمامي. أراهم بيننا أحياء يتنفسون ويأكلون ويشربون، ويمشون على أقدامهم. لقد سخروا منا حين تظاهروا بالموت، وجعلونا نحملهم على أكتافنا"، ولأن هذه العبارة تتناقض تمامًا مع العبارة الأولى في القصة الأولى، كما سبقت الإشارة، فكأنها تنسخ ما قبلها، أو تنفي الموت وتحوله إلى حياة أبدية.

إعلان