إعلان

سجال الحداثة والتراث وإشكاليات خطابنا الثقافي "2 - 3"

طارق أبو العينين

سجال الحداثة والتراث وإشكاليات خطابنا الثقافي "2 - 3"

طارق أبو العينين
09:00 م الإثنين 17 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

انتهينا في المقال السابق من رصد القضية الإشكالية الأولى المتعلقة بسجال الحداثة والتراث، وهي فرضية المثقف الحداثي بشأن حتمية القطيعة المعرفية مع التراث، كشرط أساسٍ لتحديث المجتمع العربي، وذلك على خلفية السجال الذي دار بين شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة، خلال مؤتمر الأزهر لتجديد الفكر الإسلامي.

وأشرنا في نهاية المقال إلى أن تلك القطيعة المعرفية مع التراث قد ولّدت لدى المثقف العربي شعوراً بالانبهار بالعقل الغربي واحتقار العقل العربي، وأدت - من وجهة نظر كاتب هذه السطور- إلى اتجاه الخطاب الحداثي إلى التهوين من شأن العقل العربي واتهامه بأنه عقل مشبع بأفكار ميتافيزيقية (غيبية) مطلقة تفرضها عليه الثقافة العربية؛ مما أفقده أهم مقومات الحداثة، وهو ما يفتح الباب لنقاش القضية الإشكالية الثانية المتعلقة بسجال الحداثة والتراث، ألا وهي قضية علاقة النسبي بالمطلق في خطابنا الثقافي المعاصر.

هناك تعريف شائع للعلمانية، يصفها بأنها عملية يتم التعاطي من خلالها مع ما هو نسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق، بمعنى أن القضايا والمشاكل الحياتية اليومية للناس هي قضايا نسبية تحتاج إلى صيغ عقلية نسبية لعلاجها يمكن التماسها في العلوم الإنسانية النسبية، مثل القانون أو الفلسفة أو الاجتماع أو السياسة، بعيداً عن الصيغة الدينية المطلقة بفعل مصدرها الغيبي وعدم قابلية ما تطرحه للدحض أو النقاش.

ولذلك لم يكن غريباً أن تكون علاقة النسبي بالمطلق أحد محاور السجال بين الدكتور أحمد الطيب والدكتور محمد عثمان الخشت، ولا سيما أن المثقف الحداثي العربي قد أخذ على عاتقة مهمة نقل العقل العربي من السياق الديني المطلق إلى السياق الحداثي التنويري النسبي، ولذلك اعتقد المفكر الحداثي المغربي عبد الله العروي أن مفهوم الحداثة يتمحور حول تلك النسبية؛ حيث يرى أن روح الحداثة تكمن في العلم، باعتبار أن سمة القضية العلمية أنها نسبية وغير مطلقة ولا يقينية، كما أن تلك الروح تكمن في اقتصاد السوق، الذي يفقد دوماً توازنه بلا توقف ثم يضطر دوماً إلى تجديد ذاته، كما تكمن في الديمقراطية السياسية، باعتبارها نظامًا سهل الانعطاب؛ إذ يسرع إليه الكسر، ويحتاج دوماً للجبر، ومن ثم، فإن الثابت والمتكرر هو القطع مع الشأن المطلق والأمر الدائم والاعتبار النهائي، ولا سيما أن العقل في عالمنا العربي قد ظل محدداً، كما يعتقد عبد الله العروي بثقافتنا العربية التي ترى أن فوق كل عقل عقلا أعلى مطلقا أو يقينا بالمعنى المطلق، ومن ثم فلا مجال لإعمال الفحص والشك، مما يفقد هذا العقل أهم مقومات الحداثة.

فهناك مفارقة مؤلمة - من وجهة نظري - تكمن في اتجاه الخطاب الحداثي إلى التهوين من شأن العقل العربي واتهامه بأنه عقل مشبع بأفكار ميتافيزيقية مطلقة تفرضها علية الثقافة العربية، ما يفقده أهم مقومات الحداثة، وهو غض الحداثيين العرب الطرفَ عن الأفكار الميتافيزيقية التي يمتلئ بها الخطاب الرأسمالي، والذي تمثل الحداثة بكل مفاهيمها واحدة من ابرز تجلياته، وهو المأزق الذي وقعت فيه العقلانية الأوروبية، عندما هاجمت الأفكار الميتافيزيقية المرتبطة بالعقيدة الدينية، في الوقت الذي ضربت الصفح فيه عن القيم الميتافيزيقية المتعلقة بالفكر الرأسمالي، مثل ميتافيزيقا اليد الخفية التي تنظم علاقة العرض والطلب، في ظل نظام اقتصاد السوق، والتي جعلت مصلحة البرجوازي الفرد منسجمة انسجاماً تاماً مع مصلحة المجتمع.

وهو ما يؤكده المفكر المصري الراحل جلال أمين في كتابه "التنوير الزائف"، مضيفاً إلى ذلك أن العقلانية الأوروبية تساهلت مع الكثير من الأفكار التي تم التعامل معها كبدهيات في الفكر الرأسمالي، ومنها اتخاذ الفرد كوحدة للتحليل، بدلاً من الأسرة واعتبار تعظيم رفاهية الفرد الهدف الأساسَ، وأن المنافسة والصراع هما سنّة الحياة، سواء في الطبيعة أو في المجتمع الإنساني.

ولعل ما يلفت الانتباه في هذا السياق أن الخطاب الحداثي العربي لم يكتفِ بهذا، بل أنتج بدوره قيمه الميتافيزيقية الخاصة، وهو ما يؤكده تعاطي الحداثيين العرب مع مسألة القطيعة المعرفية مع التراث، باعتبارها مسألة حتمية، كما تؤكده أيضاً محاولتهم فرض مشروع الحداثة مع إغفال السياقات الاجتماعية والسياسية التي ولدت هذا المشروع في القارة الأوروبية والتي يصعب استدعاؤها الآن في عالمنا العربي.

وهو ما يجسد تناقضاً بنيوياً في الخطاب الحداثي العربي الذي يحدثنا دائماً عن التصور النسبي للأمور، في الوقت الذي يرتمي فيه ارتماء كاملاً في أحضان الميتافيزيقا وقيمها المطلقة؛ بما يؤكد أن سجال الحداثة والتراث ما هو إلا محصلة لتعاطي المثقف الحداثي العربي بانتقائية شديدة مع مشروع الحداثة الغربي في الوقت الذي يتعاطى فيه براديكالية مع التراث العربي والإسلامي.

ولذلك فإن تعريف دور المثقف التنويري الحداثي، في ضوء سجاله الكلاسيكي مع التراث سوف يكون محور مقالنا القادم - إن شاء الله.

إعلان