إعلان

التنويريون الجدد (2)

د. أحمد عمر

التنويريون الجدد (2)

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الثلاثاء 10 نوفمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الدين حياة بالمعنى الشامل للحياة. والخلل دائمًا لا يكمن في الدين ذاته، ولكن في الفهم القاصر للدين. ولهذا لا بد من فتح الباب لعلاقة مستقبلية توافقية بين التنوير والعقلانية والدين والأبعاد الروحية للإنسان. ولا بد من تأسيس نسق فكري يجمع بينهما؛ حيث لا غنى لأحدهما عن الآخر؛ فلا مستقبل لعقلانية تستبعد الأبعاد الروحية, ولا مستقبل لروحية تستبعد الأسس العقلانية.

تلك هي خلاصة المحاضرة الشهيرة التي ألقاها في مايو 2008 الراحل الدكتور نصر حامد أبوزيد في القاعة الشرقية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وحملت عنوان "الفن وخطاب التحريم"، والتي تشرفت بحضورها في ذلك الحين.

وقال فيها أيضًا إن الثقافة العربية "ثقافة سمعية" تُعادي الفنون البصرية، ولا تميل للقراءة والبحث وإعمال العقل، وإنه كان ضحية تلك الثقافة السمعية، وضحية القراءة المتربصة لمشروعه الفكري، وضحية للوسطاء الذين نقلوا أفكاره للناس، فوضعوا على لسانه ما لم يقُل به حقيقة.

والمفارقة المحزنة التي أشار إليها نصر حامد أبوزيد في تلك المحاضرة أن أغلب مَن هاجموه أو ناصروه لم يقرأوا كتبه؛ فمن هاجمه نقل له الآخرون أنه كافر. ومَن ناصره كان يجد في نفسه شيئا من الكفر، فاعتقد أن نصر أبوزيد على ملته في الكفر، وقال إنه ليس بكافر على الإطلاق، ولا يوجد في كل ما كتبه شيء ضد الإيمان، وأنه ينقد الفكر الإنساني فقط، أما الإيمان فإنه يحتفي به، ويريد أن يستعيده بأوسع معانيه.

وقد أثارت تلك الأفكار بذهني في حينها تساؤلات عديدة حول إمكانية تطور مشروع نصر حامد أبوزيد الفكري، وما يمكن أن يسفر عنه في حل مأزق خطاب التنوير العربي، الذي فشل في أن يؤتي بثماره في فكرنا وواقعنا.

وقد عرضت في المقال السابق لمظاهر فشله وأسبابه. وكيف أننا أصبحنا في حاجة للتفكير في تأسيس خطاب تنويري جديد يحمل أصحابه اسم "التنويريين الجدد". ويمكن تحديد أهم مقومات هذا الخطاب التنويري على النحو التالي:

أولاً- الإيمان بالعقلانية وبأهمية الرؤية الفلسفية والنظرة والنقدية، وفي الوقت ذاته التمسك بثوابت الدين، والإيمان بأهميته في الحياة الإنسانية، لأن الدين والإحساس بالألوهية في الكون هما حاجة روحية أساسية، وهما جوهر إنسانية الإنسان وأثمن ممتلكاته.

ثانياً- التنويريون الجدد لا بد من أن يدركوا جيداً أن الدين مقوم أساسٌ من مقومات هذه الأمة، وأن عودة الناس إليه وتمسكهم به وجه من وجوه الواقع لا ينكره إلا غافل، وبالتالي فإن أصحاب المشاريع الفكرية التي تعادي الدين أو تهمشه ضمن منظومتها الفكرية، أو تسخر منه - هم قوم يحرثون في الماء، ويزرعون في رمال الصحراء، بلا فائدة أو تأثير حقيقي.

ثالثاً- التنويريون الجدد لا بد لهم من إدراك أن للأمة ثوابتها التي يجب أن تظل فوق كل شكل من أشكال النقد، ناهيك من التطاول والتجريح، وأن الإلحاد والتجاوز والتطاول على المقدسات كان موضة في مرحلة زمانية ماضية، وموجة فكرية ركبها العديد من المثقفين، إلا أنه لم يعد كذلك، ولم يعد من المُجدِي أيضاً أن يقضي المثقفُ التنويريُّ الجديد عمره في خصومة مع الله؛ فينبذه سياقه ومجتمعه.

رابعاً- التنويريون الجدد يقع على عاتقهم إجراء مصالحة بين الإيماني والعقلاني؛ فلا مستقبل لعقل يعادي الإيمان، ولا لإيمان يعادي العقل؛ بل إن المستقبل هو "للعقل المؤمن" الذي ينطلق من يقين ونور إيمانه بالله ليوجه سهام نقده لكل قوى الشر من البشر والدول الذين نصّبوا أنفسهم آلهة من دون الله، وأخذوا على عاتقهم أن يصير الحق باطلاً والباطل حقًا.

في النهاية، فإن التنويريين الجدد هدفهم الأساسُ هو إحداث تغيير في بنية العقل المسلم المعاصر ومنطلقات تفكيره، ودفعه إلى أن يعيش عصره، دون أن يفقد هويته وخصوصيته الثقافية والحضارية، مع الحرص الشديد من جانبهم في عدم الوقوع في فخ الإفراط أو التفريط، والسعي من أجل إعادة اكتشاف ما في الإسلام من طاقات روحية وحضارية، والمواءمة بينه وبين مقتضيات وحاجات العقل والعصر.

إعلان