إعلان

لويس عوض وعبدالرحمن بدوي .. لمحات من المذكرات

د.هشام عطية عبدالمقصود

لويس عوض وعبدالرحمن بدوي .. لمحات من المذكرات

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 23 أكتوبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تمثل مذكرات الشخصيات ذات الأدوار الثقافية والمجتمعية شهادة ذاتية عن أحداث ووقائع شاركوا فيها أو كانوا شهودًا عليها، تحمل أفقًا لما رأوه وتغلغل داخلهم، ثم آثروا أن يجسدوه عبر ما كتبوا، وتظل طبعًا رؤية ذاتية، ولكنها أيضًا تشكل إضافة وزخمًا للرواية الرئيسية السائدة والتاريخية عن الأماكن والشخصيات والزمان ذاته، وتكتسب هذه السير عمقًا دالاً أكبر كلما تحلت بشجاعة صراحة الرواية، ثم يتبقى أن أجمل ما بها هو بعض ما تتخلله المذكرات من وقفات تحكي عن ملامح مكان أو إنسان أو عصر، وهكذا تجيء وقفاتنا هنا عند بعض ما كتبه كل من الدكتور لويس عوض والدكتور عبدالرحمن بدوي من شهادات تضمنتها مذكراتهما.

أتوقف عند لويس عوض وشهادته المهمة عن قيمة ومكانة ودور الأستاذ الجامعي طه حسين في دعم واكتشاف الموهوبين من الطلاب، بل وفي بناء وعيهم بشأن الواجب وحيث تتجلى أبوة طه حسين وأستاذيته، ولعل جوهر فرادتها أنها لم تزدها الأيام الصعبة التي عبر بها طه حسين في مشواره في الحياة والتعليم مرارةً، بل أمدتها برحمة اتسعت لكل مستحق ورغبة في العطاء متى يقدر دون محاباة أو مجاملة، يحكي لويس عوض في مذكراته المعنونة: "أوراق العمر: سنوات التكوين"، عن حالة لويس عوض تحديدًا الطالب في السنة النهائية بقسم اللغة الإنجليزية عام 1935: "وحتى تلك الفترة لم أكن أعلم إن كان طه حسين يحس بوجودي أم لا؟، فمنذ زيارتي له في بيته قبل التحاقي بالجامعة لأستعين به على طلبي للمجانية دون معرفة سابقة، لم أزره بعدها قط خارج الجامعة أو داخلها.. وفوجئت ذات يوم في ربيع 1937 برئيس القسم البروفيسو أ.ر فيرنيس يقول لي تعالى أريد أن أقدمك إلى الدكتور طه حسين وكلمني عن محاضرة سألقيها على الطلاب والأساتذة يمكنني أن أدعو لها طه حسين العميد، وطرت من الفرح.. وكان طه حسين لا يعرف سوى الفرنسية وعجبت كيف يطيق أن يجلس ساعة كاملة يستمع إلى كلام لا يفهم معظمه.. وكان طه حسين هو صاحب الفضل في سفري، وكان فضله عظيمًا، في بلد لا يعطي الحق غالبًا لمستحقيه". هنا تنتهي شهادة لويس عوض عن عصر طه حسين ودور أستاذ الجامعة.

ثم نتجول في السيرة الذاتية للدكتور عبدالرحمن بدوي، وهي مقتطفات تعبر وفق رؤيتي وإذا أردتم استخلاصًا موجزًا لشخصه كما تحمله المذكرات فيما أتصور أنه لا شك باحث كبير، لكن لم يخل عقله أيضًا من الأحكام المطلقة والتعميمات، لكنه هنا في بعض مواضع السيرة يصف ذلك الشامخ الأستاذ طه حسين وحيث يتضح هنا تأصيلا وسلوكًا مستمرًا وعطاء جميلًا في شخص طه حسين، حيث ومهما تختلف أيديولوجيات تلاميذه يظل له عند كل منهم أثر طيب بين لا يبارح رغم بعض ما يتخلل من انتقادات عابرة وهي من طبائع البشر.

أتوقف كثيرًا عند وصف عبدالرحمن بدوي لبعض مظاهر الحياة أو أحكامه بشأن بعض الشخصيات الشهيرة في عصره، والتي عاش معها زمانها وعرفها، وهو يحكي بداية عن انخراطه في عضوية حزب: "مصر الفتاة"، في أربعينيات القرن العشرين ونفهم كيف تؤدي نزعة كامنة شخصية لدى بعض الشباب للانخراط في ذلك، ثم يتم تدعيمها لتنمو أفقًا واحدًا مغلقًا عنيفًا، ثم كيف تؤثر نزعة التطرف تلك على تكوين وشخصية وسلوك من يمضي بها، فيقول عن أساليب الرد على الخصوم الفكريين التي تبنتها القوى المذهبية المغلقة، وكيف أن ذلك طال قامة عباس العقاد ذاته، وعن دور عبدالرحمن بدوي نفسه في ذلك صريحًا وحيث يحكي نصًا: "كان العقاد طوال حياته مأجورًا لحزب من الأحزاب الوفد حتى 1935، ثم خصوم الوفد من 35 إلى 1938والسعديين حتى 1950ولبريطانيا طوال مدة الحرب 39 حتى 1945 على الأقل، ثم انكفأ يهاجم "مصر الفتاة"، فلما كتب أول مقال تشاورنا في "مصر الفتاة"، بماذا نرد فرأى صبيح أن يكون ردًا قاسيًا في جريدة "مصر الفتاة"، فكتب العقاد مقالا آخر كان أشد وأنكى، وكان من رأيي أن العقاد يرحب بالمقالات، ولا بد من استخدام العنف معه فتربص اثنان للعقاد وهو عائد إلى بيته فانهالا عليه ضربًا وصفعًا وركلًا، وأفهماه أن هذا تأديب مبدأي بسبب مقالين ضد "مصر الفتاة"، وأحدثت هذه العلقة أثرها الحاسم فخرس العقاد خرسًا تامًا، ولم يعد إلى الكتابة ضد "مصر الفتاة"، وقفت أمام هذه اللقطة مذهولاً مأخوذًا عن كيف كان هذا الباحث والعالم والمثقف الكبير شابًا متطرفًا عنيفًا، وكيف يقود التواجد في تلك الجماعات والقوى المذهبية المنغلقة إلى ساحة العنف سبيلاً وحيدًا، يصل إلى ما يصفه من تطرف وعنف في تعامل مع خصومة ثقافية وفكرية، ويظل ذلك قسمًا لافتًا من شهادته لنفسه وعن عصره.

وفي رحاب عبدالرحمن بدوي ومن خلال القسم الأول من سيرته الذاتية، نختار ما تحير فيه تعبيرًا عن رؤيته التي تفضل الحدية والتي قد لا تتفهم رحابة تتسع وتأتلف لطبيعة الإنسان: "وأقمت في بيروت في بنسيون شهير، كان يقيم فيه المستشرق العظيم لويس ماسنيون، وقد لاحظت عليه طيلة إقامته أنه كان يغادر البنسيون في الخامسة والنصف صباحًا كل يوم، وعرفت منه أنه يذهب؛ ليشارك في قداس الساعة السادسة، رغم البرودة الشديدة، فعجبت كل العجب، كيف يحرص عقل مليء بالعلم، على أداء هذا الطقس الشكلي، في أصعب الظروف ولله في خلقه شئون!".

يقدم لنا عبدالرحمن بدوي ومن عمق تاريخ زمني طويل شيئا دالا ومهما هو ضمن شهادته ورؤيته ذاتها والتي تطل هنا محيرة لكونها تظل منذ حينها وبعد ذلك مضادة لكل الرؤى الشائعة في هذا السياق: "ومن الأمور التي حرصت عليها منذ سفري إلى باريس حضور مناقشات رسائل الدكتوراه في الفلسفة والتاريخ في السوربون، لكن مستوى المناقشة لم يكن رفيعًا في كثير من الأحيان.. إذ رأيت مشرفين يعترفون أمام الجمهور بأنهم لم يقرأوا من الرسالة إلا نصفها أو لا علم لهم كبير بموضوع الرسالة، أو لا يتكلمون إلا عن الفهارس وأرقام صفحات المراجع".

إعلان