إعلان

متحف المثقفين

د. أحمد عمر

متحف المثقفين

د. أحمد عبدالعال عمر
07:14 م الأحد 18 أكتوبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"إن المثقفين في البلدان المتخلفة يعيشون عالة على المجتمع، وهم حفنة ثرثارة تتحدث عن النظري، بعيدًا عن واقع الناس وآلامهم.

القراءات الضحلة حوّلتهم إلى ممثلين كاريكاتوريين وأدعياء؛ يرون العالم من أعلى. أنا لا أدينهم بل أشرح حالتهم النفسية".

هكذا تحدث الأديب السوري "حيدر حيدر" على لسان أحد أبطال روايته "الزمن الموحش"، موضحا وجهة نظر شديدة القسوة حول دور المثقف في بلادنا، وهي وجهة نظر نابعة - في ظني - من إحساس عميق باللاجدوى شعر به هذا البطل المثقف بعد تأمله في حاله ووضع المثقفين العرب، ومآلات تأثيرهم في مجتمعاتهم.

وهنا يجب علينا تحديد معنى المثقف في سياقات اجتماعية وحضارية مختلفة عن بلادنا، وسوف يكون مرجعنا في ذلك كتاب "كي لا نستسلم"، الذي ضم مجموعة حورات دارت بين المفكر السويسري جان زيغلر والمفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، والصادر عن منشورات Arléa في باريس 1994، وقام بترجمته إلى اللغة العربية رينيه الحايك وبسام حجار، وصدر عن منشورات المركز الثقافي العربي عام 1995.

فالمثقف- كما يرى ريجيس دوبريه- هو الإنسان الفاعل الذي يدلي بدلوه في الشأن والمجال العام، ويعلن على الملأ آراءه حول المدينة والمجتمع؛ حيث يحيا.

وبالتالي فإن المثقف ليس هو الكاتب ولا العالم؛ فالكاتب لا يعنيه إلا العبارة الجميلة. والعالم يكفيه أن يؤسس حقلًا جديدًا للأبحاث، في حين يحتاج الكاتب والعالم لكي يكونا مثقفين أن يكونا فاعلين في مدينتيهما، وأن يشاركا في الشأن العام، وأن يتركا صدًى.

إذن، فإن الفاعلية والتأثير والصدى هي جوهر وجود ودور المثقف في المجتمعات الغربية، وهي التأثير المعدوم الوجود في مجتمعاتنا العربية، وهي ما دفع بطل حيدر حيدر المثقف المهزوم إلى أن يرى أن وجود المثقفين في بلادنا كعدمه، وأنهم كائنات منفصلة عن الواقع، مشغولة بالنظري على حساب العملي.

الجدير بالذكر هنا أن السؤال حول المنفعة من وجود المثقفين، والتساؤل هو مستقبلهم العملي والقريب، صار يُطرح أيضًا في السياقات الاجتماعية والمعرفية الغربية في ضوء المُتغيرات التي شهدها العالم منذ تسعينات القرن الماضي، وانتشار قيم العولمة، وزيادة تأثير الإعلام المرئي، وسيطرة الصورة على الكلمة، ثم طغيان تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. وهي المُتغيرات التي تهدد بجعل المثقف الحقيقي كائنا منقرضا، تستحق بقايا نماذجه السابقة أن توضع في "متحف المثقفين" لكي تشاهده الأجيال اللاحقة.

وبالرجوع مرة أخرى إلى كتاب "كي لا نستسلم"، نجد المفكر السويسري جان زيغلر يُخاطب محاوره ريجيس دوبريه قائًلا: "إنك تؤلف كتبًا وأنا أؤلف كتبًا، وأنت تُدرس وأنا أُدرس، ولكن في النهاية ما المنفعة من وجودنا؟ وما هو مستقبلنا العملي والقريب كمثقفين؟ إن المثقف يدخل في عداد الناس الذين لا يجيدون فعل شيء على الإطلاق، اللهم إلا الإنتاج الرمزي، وإنتاج الأفكار والكلمات، وهذه الأفكار تحتاج إلى من يُجسدها لكي تصبح موجودة، لكي تصبح قادرة على تغيير الواقع.

وهذه الأفكار والكلمات تحتاج إلى حركات اجتماعية؛ لأن الحركات الاجتماعية هي القادرة على تحويل الأفكار إلى قوى مادية قادرة على تغيير مجرى الأمور ومجرى التاريخ. وحين تختفي وتغيب الحركات الاجتماعية، وحين تتغلب (العقلية التسويقية) وتكون العقلية التجارية هي التي تحكم الخيارات الاقتصادية والإنتاجية للدولة، لا يمكن لأفكار المثقف أن تتجسد وأن تؤثر في الواقع".

وتلك القراءة المُحزنة لواقع المثقفين التي قدمها جان زيغلر أكد عليها أيضًا المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه؛ ولهذا قال بصدق وقسوة موجعة: "لا جدوى اليوم من وجودنا، ولا فاعلية لنا، ويجب علينا أن نتعايش مع هذه الفكرة.. إن المثقف الحقيقي صار مؤخرًا معزولًا عن الناس، وغير حاضر في وسائل الإعلام التي تصدرها مطلقو التوافه وبائعو الأوهام. وإن تقنيات تأثير المثقف التقليدية قد تبددت في العقود الأخيرة بسبب تطور وتغير أدوات ووسائل الإعلام والاتصال التي تهيمن فيها الصورة.

وهي أدوات غريبة عن أخلاق النخبة المثقفة، لأن أخلاق النخبة تكمن في الحوار العقلاني وفي الكتابة، وفي الزمن الذي يستغرقه بناء تحليل منطقي للواقع وأحداثه ومتغيراته، وهذه أشياء مستبعدة في المجال الإعلامي".

وأضاف ريجيس دوبريه: "أصبح المثقف الحقيقي اليوم في حيرة من أمره؛ فهو يريد التأثير في العقول، حتى لا يخون وظيفته ودوره، وهذا لن يكون بدون أن يُروج إعلاميًا. وإن رُوج إعلاميًا وخضع لسطوة الشهرة والحضور الدائم، فقد يتحول إلى ممثل فاشل ومتحدث حسب الطلب، وبذلك يخون أخلاقيات المثقف.

ولكنه في الوقت ذاته، عندما لا يروج إعلاميا، وينعزل في برجه العاجي، ويصبح أثير صفاء عزلته واستغنائه، فهو يخون وظيفته أيضا لأنه يتخلى عن الالتزام وممارسة التأثير وخوض السجال العقلاني".

وهنا تكمن- من وجهة نظري- المُعضلة الوجودية لمثقف اليوم الحقيقي؛ فكلما زادت استقلالية المثقف قلت فاعليته، وكلما صار حاضرًا في تقنيات التأثير الحديثة (الإعلام المسموع والمشاهد)، ليصبح فاعلًا، تهددت استقلاليته وحريته والتزامه بالحقيقة.

ولهذا لا بد من البحث عن حل لهذه المُعضلة، حل يجعل المثقف يمارس نقدًا ذاتيًا لخطابه ولغته وأسلوبه وأدواته، لكي يطورها جميعًا، ويكون حاضرًا وفاعلًا ومفيدًا لمجتمعه، وفي الوقت ذاته يحافظ على كرامته والتزامه واستقلاليته وحريته وشجاعته في قول الحقيقة.

وبدون توفر هذا الحل، فإن وجود المثقف يصبح مهددًا، ولاحقًا سوف يُقذف به كما قال "جان زيغلر" في أقبية النسيان، لنحتفظ في المتاحف بنماذجه السابقة التي كانت فاعلة ومؤثرة ودافعة للتغيير نحو الأفضل.

إعلان